خوان لويس فيفيس، شعلة أنارت التعليم الأوربي

العرئش نيوز:

محمد عزلي

يقول خوان لويس فيفيس: [إن جهل لغات الكُتَّاب العظماء، جعلنا لم نفهم رسائلهم ونصائحهم حول الطريق الذي يجب أن نسلكه، والغاية التي يجب تحقيقها. إن جهل هذه اللغات حرمنا تقريبًا من معرفة هؤلاء المؤلفين الذين كتبوا أعمالهم الأدبية الضخمة باللغة اليونانية أو اللاتينية، وسلموها إلى الأجيال التي تلتهم. هذه اللغات مع استمرارية العديد من الحروب، سقطت ضحية للإهمال التام (…) إلى أن فُقدت في إيطاليا والغرب كله. (…) هذه الهمجية الجامحة الغبية أحدثت دمارا هائلا، أضرمت النار في المكتبات وخربت المدن والممالك كلها، إنه إجرام الشر ذلك الذي يضرم الحريق إلى حد الرماد في أعمال النوابغ العظام (…) لكن الخسارة أو التعتيم الشديد لهاتين اللغتين المهيبتين، اللاتينية واليونانية، جلبت حتما الظلام والإحباط في الفنون والتخصصات التي كان لها حضور في تلك اللغات، وفقدت الكلمات معناها الدقيق لحساب أخرى غير معروفة، بلهاء، وقبيحة] كتاب “من التخصصات De las disciplinas.

خوان لويس فيفيس (1492/1540) أحد أقطاب الفكر الإنساني أو الإنسانوي، أستاذ، كاتب، وفيلسوف، ولد ونشأ بمدينة فالنسيا الإسبانية من أسرة يهودية ثرية عرفت بالتجارة والتدين، كان قدَره أن عاصر حقبة محاكم التفتيش التي أجبرته وأسرته على التحول إلى المسيحية تجنبا للطرد وخوفا على أرواحهم وممتلكاتهم، غير أن الأسرة حافظت على عقيدتها اليهودية ومارست طقوسها سِرّاً في دير أقاموه بالمنزل رعاه ابن عمه الحاخام ميغيل فيفيس، هذا الأخير سيُكتشف أمره رفقة والدته لتبدأ مرحلة متابعة عائلة فيفيس من قبل محاكم التفتيش.

كان لويس فيفيس في هذا التوقيت بالذات قد بلغ السابعة عشرة من عمره سنة 1509، حيث كان يواصل دراسته بجامعة فالنسيا الفتية آنذاك والتي ولجها قبل عامين، فقرر والده – القلق بشأن مصير العائلة – إرساله إلى باريس لمواصلة دراسته بجامعة السوربون، وهي قبلة الطلبة الأوروبيين المحظوظين، والتي تخرج منها دكتورا سنة 1512، لينتقل بعدها مباشرة إلى مدينة بروج البلجيكية حيث تواجدت بعض العائلات من تجار فالنسيا الفارين من جحيم الكنيسة الكاثوليكية.

 في العام 1523 شغل أستاذاً بجامعة أوكسفورد البريطانية، وتم تكليفه بكلية كوربوس كريستي التابعة لها من قبل الكاردينال توماس وولسي[2]، كما عُين مستشارا لهنري الثامن ملك إنجلترا (1491/1547). وهكذا أوجد لويس فيفيس لنفسه فضاءً آمنا لإثبات وجوده والتطور بشكل جيد في أعماله الثقافية، التعليمة، البحثية، والدراسية، وهناك أيضا أصبح صديقا لتوماس مور[3]، وملكة إنجلترا كاتالينا دي أراغون (1485/1536) التي بسببها سيخسر عمله وحريته بعد أن أدلى برأيه المعارض لطلاق الملك منها وزواجه من الملكة آن بولين (1500/1536).

بعد الإفراج عنه رفض لويس فيفيس عرض صديقته كاتالينا بالبقاء في القصر الملكي، وقرر العودة فورا إلى بروج سنة 1524، لكنه قبل منها المساعدة من خلال تسهيل تصاريح التجارة التي بدأ يمارسها، فكان يستورد الخمور والصوف إلى إنكلترا ويصدر القمح إلى القارّة الأوربية، الشيء الذي جعله يحسن وضعه المعيشي والاجتماعي من جهة، ومن جهة ثانية أعاد التواصل مع أصدقائه وتلامذته، ثم تعرف إلى مارغاريتا مالدورا من نبلاء مدينة بروج والتي تزوجها في العام ذاته 1524.

وفي العام 1526 سيتلقى لويس فيفيس أنباء صادمة، ففيها أدين والده وأحرق من قبل محاكم التفتيش التي شكلت كابوسه الخالد، فحتى جثة والدته المتوفاة سنة 1508 لم تسلم من ساديتهم، إذ نبش قبرها وأحرق جثمانها عام 1529. وفي العام 1526 أيضا علم بحكم الإعدام الصادر في حق صديقه توماس مور لمعارضته كذلك لطلاق الملك من كاتالينا، وقد كان في هذه الأثناء معلم اللغة اللاتينية لابنتها ماريا تيودور (1516/1568). الشيء الذي جعل لويس فيفيس يهرب مجددا إلى بروج بنفسية مكتئبة رافضا عروض التدريس وخاصة من جامعة ألكالا دي هيناريس بإسبانيا موطن الرعب بالنسبة إليه. وفي هذه المرحلة تحديدا أخرج كتابه المرجعي “إغاثة الفقراء Subventione pauperum” الذي جعل منه أول شخص في أوربا يضع تصميما تطبيقيا لخدمة المساعدة الاجتماعية المنظمة، فكانت بالفعل خطوة أولى لمنهجة تدخل الدولة في المجال التضامني ومساعدة المحتاجين.

وفي محاولة لمساعدة صديقته الملكة كاتالينا، كتب فيفيس إلى كارلوس الخامس الإمبراطور الروماني المقدس (1500/1558) عدو الملك هنري، وإلى بابا الفاتيكان كليمنت السابع (1478/1534)، لكن الكاردينال وولسي منعه ورأى أن جهوده عديمة الجدوى، وأن الملك لن يتخلى مطلقا عن الطلاق، فحاول إقناع الملكة بقبوله، لكن هذه الإستراتيجية أزعجت كل من هنري وكاتالينا مما تسبب في حرمانه من المعاش الملكي وطرده من إنجلترا، وهو الأمر الذي جعله يسرع إلى كارلوس طالبا الحماية، متودِّداً بإهدائه إياه أطروحته الموسومة “التهدئة De pacificatione” سنة 1529، وقد نجح في مسعاه بضمان أمنه إضافة إلى أجر سنوي قدره 150 دوكادوس كانت تقضي حسب لويس فيفيس نصف حاجياته الضرورية.

عاش خوان لويس فيفيس العقد الأخير من حياته في ظروف صحية سيئة آلت به في النهاية إلى المنية في 6 ماي 1540 حيث شيع ودفن في كنيسة سان دوناثيانو [بروج / بلجيكا]، لكنه اشتغل خلال تلك الفترة كثيرا على الفكر الإنساني مركزا على غرس وتكريس الفلسفة والأخلاق لإصلاح التعليم الأوروبي، فهو من اقترح دراسة أعمال أرسطو بلغته الأصلية وأخرج لأجل هذا الغرض كتابه الشهير “ممارسة اللغة اللاتينية Lingva latina exercitatio” الذي مكن من تدريس اللاتينية للطلبة بدل نصوص القرون الوسطى معتمدا على تحيين المصطلحات والمفاهيم بشكل يتماشى مع لسان العصر، وهو الكتاب الذي طبع  65 مرة بين 1538 و 1649. كما اعتُبِر فيفيس عرَّاب إصلاح السوربون حيث نادى بتوفير التعليم عالي الجودة، وتقعيد الفلسفة علماً ومنهجيةُ.

المؤسسة التعليمية لويس فيفيس بالعرائش
شيدت هذه البناية الأنيقة قبل قرن من الزمن لتشغل وظيفة مؤسسة عسكرية للرعاية والتعليم في عهد الحماية الإسبانية بالعرائش خلال القرن العشرين [باتروناتو مليتار Patronato Militar de enseñanza] ثم تحولت إلى مؤسسة تعليمية إسبانية مدنية في عهد الاستقلال، وهو الدور الذي لازالت تشغله إلى يومنا هذا، حيث أضحت مؤسسة لويس فيفيس بمسماها الحالي، واحدة من أفضل فضاءات التعليم محليا ووطنيا، بل وأصبحت نمودجا ممتازا للاقتداء والمحاكاة من لدن أهل الاختصاص بالمغرب وإسبانيا.

شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.