الانتخابات الإسبانية: عودة الروح لليسار الأوروبي والمغرب بين الخسارة والربح

العرائش نيوز:

حسن المجدوبي 

شهدت إسبانيا الأحد الماضي 28 نيسان/أبريل انتخابات تشريعية قادت إلى فوز الحزب الاشتراكي بأكثر من 28 في المئة من الأصوات والذي سيعمل على تشكيل الحكومة المقبلة. وتعتبر هذه الانتخابات منعطفا هاما يتعدى الحدود الإسبانية إلى التأثير على اليسار في الغرب، كما تمس المغرب أساسا بسبب اقتحام حزب فوكس المتطرف البرلمان، وهو الحزب الذي يستعيد حلقات من التاريخ التي تتميز بالمواجهة.

هذه الانتخابات كانت سابقة لأوانها، هي الثالثة من نوعها في ظرف سنتين ونصف، وهذا يدل على عدم الاستقرار السياسي في البلاد، إذ لم تشهد إسبانيا مشهدا سياسيا مثل هذا منذ بداية الانتخابات التشريعية في العهد الديمقراطي بعد رحيل الدكتاتور الجنرال فرانسيسكو فرانكو سنة 1975. ويعود غياب الاستقرار إلى البلقنة التي شهدتها الحياة السياسية منذ سنة 2016، عندما انتهت مرحلة الثنائية الحزبية التي هيمنت على البلاد، إذ كانت السيطرة بالتناوب لكل من الحزب الاشتراكي ثم الحزب الشعبي المحافظ. وظهرت أحزاب جديدة وهي بوديموس “قادرون” وهو اليساري الراديكالي ثم حزب اسيودادانوس “المواطنون” وتوجهه الليبرالي.

وتفاقمت بلقنة المشهد السياسي الإسباني في هذه الانتخابات بسبب اقتحام حزب جديد للبرلمان الوطني وهو حزب فوكس اليميني القومي المتطرف في أطروحاته، إذ حصل على 24 مقعدا بما يفوق 10 في المئة من أصوات الناخبين، وهو ما يعادل مليونين و600 ألف صوت، وهي نسبة مرتفعة من الأصوات، لاسيما وأنه لم يسبق لأي حزب سياسي متطرف في أوروبا الحصول على نسبة هامة من الأصوات في أول مشاركة جدية له في الانتخابات التشريعية.

وعلاوة على البلقنة السياسية، فقد التحقت إسبانيا بباقي الدول الأوروبية التي تشهد حضور أحزاب قومية يمينية متطرفة، بعدما كانت الاستثناء الوحيد تقريبا في مجموع أوروبا، حيث فشلت مختلف محاولات اليمين المتطرف في الماضي من الحضور في الخريطة السياسية للبلاد.

وتعتبر إسبانيا دولة متوسطة القوة دوليا، وبالتالي لا تلعب دورا رئيسيا في القرارات الدولية، ولهذا لا تحمل انتخاباتها تأثيرات ملحوظة في المشهد الدولي مثل حال الولايات المتحدة الأمريكية أو روسيا بل ولا تصل إلى مستوى تأثير فرنسا وبريطانيا. لكن هذه الانتخابات تعتبر منعطفا هاما بسبب ما تحمله من تأثيرات تتعدى الحدود الوطنية الإسبانية، وهي شبيهة نوعا ما بالانتخابات التي جرت سنة 2000 ومنحت الأغلبية المطلقة للحزب الشعبي بزعامة خوسي ماريا أثنار، وقام وقتها بالانخراط في محور لندن-واشنطن بزعامة الثنائي بلير-بوش الابن وتخلى عن المحور الأوروبي بزعامة شيراك-شرودر أو برلين-باريس. وتهم التأثيرات الخارجية عددا من الملفات ولكن أبزرها هي اليسار والاستقرار من وجهة نظر أوروبية ثم المغرب.

وتحمل هذه الانتخابات تأثيرا على اليسار الأوروبي. فقد أعادت للسياسة معناها الحقيقي أو المواجهة الإيديولوجية في القارة الأوروبية. فقد كانت خلال العقد الماضي ومنتصف الجاري بدون نكهة سياسية نتيجة فقدان اليسار لطابعه الإيديولوجي بعدما تأثر بأطروحات “الطريق الثالث” التي نشرها رئيس الحكومة البريطانية الأسبق توني بلير وجعلت أحزابا يسارية كبرى مثل الفرنسي والإسباني والألماني تتبنى هذه الأطروحة، وأصبحت ليبرالية أكثر منها يسارية. وكان ميل اليسار للأطروحات الليبرالية هو سبب ظهور اليمين القومي المتطرف.

وكانت بداية عودة المواجهة الإيديولوجية في بريطانيا بعد ما استعاد جيرمي كوربين الطابع اليساري لحزب لعمال الذي فقده مع توني بلير ثم غوردون براون، والآن يكمل بيدرو سانتيش الأمين العام للحزب الاشتراكي المهمة بعد فوزه البين بحصوله على 123 مقعدا بينما حصل اليمين المحافظ على 66 مقعدا فقط، وهي أسوأ نتيجة للأخير في تاريخ الانتخابات الإسبانية.

وبدون شك، ستجعل هذه الانتخابات باقي الأحزاب اليسارية الأوروبية وخاصة الاشتراكية ومنها الفرنسي، الرهان مجددا على الأطروحات اليسارية التقليدية والابتعاد عن معانقة الليبرالية التي أدت فقط إلى فقدان هذه الأحزاب دورها التاريخي.

الاستقرار السياسي

تعرب المفوضية الأوروبية عن قلق شديد نتيجة التغيرات الحاصلة في معظم الدول الأوروبية بسبب قدوم أحزاب جديدة ولاسيما اليمينية القومية المتطرفة، وهو ما أدى إلى غياب الاستقرار. ويعتبر فوز الحزب الاشتراكي بالمركز الأول، وبفارق يفوق 50 مقعدا عن الحزب الثاني وهو الحزب الشعبي ضمانة للاستقرار السياسي في إسبانيا خلال الأربع سنوات المقبلة، سواء تحالف مع حزب بوديموس اليساري أو مع اسيودادانوس الليبرالي.

وهذا الاستقرار في الحكومات هو الذي تحتاجه أوروبا في ظل التغيرات الكبرى مثل “بريكسيت” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) وملفات مثل الهجرة والنمو الاقتصادي وبحث أوروبا عن بوصلة في ظل التنافس الأمريكي-الصيني الذي سيشكل عالم الغد.

ملفات

يعتبر المغرب ملفا لا يقتصر فقط على الدبلوماسية بل من الملفات الداخلية في السياسة الإسبانية نتيجة القضايا المتعددة منها الهجرة والإرهاب ووجود ملفات شائكة صامتة مثل سبتة ومليلية المحتلتين والتعاون الاقتصادي. واعتاد المغرب الارتياح لنجاح الحزب الاشتراكي بسبب سهولة الحوار والتفاهم منذ آليات الحوار التي أرساها كل من الملك الراحل الحسن الثاني ورئيس الحكومة الإسبانية الأسبق فيلبي غونثالث.

وذهب الكثير من المغاربة إلى اعتبار هذه الانتخابات انتصارا للمغرب ويتكهنون بالاستقرار في العلاقات، وهو رأي سديد نسبيا، لكن استقرار العلاقات حدث حتى مع رئيس الحكومة المحاف ماريانو راخوي. هذا الأخير، أقام علاقات طيبة مع المغرب وكذلك مع الجزائر، بشكل لم يحدث خلال الأربعين سنة الأخيرة، إذ كانت كلما ساءت العلاقات مع الرباط تلجأ مدريد إلى تمتين علاقاتها مع الجزائر.

لكن هذه الانتخابات كشفت عن خسارة للمغرب بمفهوم شبح توظيفه بشكل عنيف في المشهد السياسي الإسباني. ويعود هذا إلى اقتحام حزب فوكس اليميني القومي المتطرف للبرلمان بـ 24 مقعدا.

يعد فوكس مشكلة حقيقية للعلاقات المغربية-الإسبانية خاصة بالنسبة للمستقبل، رغم أنه القوة الخامسة في البرلمان، ولن يكون له تأثير على صنع القرار السياسي الآني، فالحكومة ستكون اشتراكية وتمثل كل النقيض لها الحزب. فوكس يختلف عن الأحزاب المتطرفة والعنصرية الأوروبية الأخرى، تلك الأحزاب تنطلق من مواجهة الهجرة، وهذا قادها إلى مواقف متطرفة تجاه الإسلام والمسلمين والعرب عموما. لكن في حالة حزب فوكس، فهو ينطلق من التاريخ المشترك بين المغرب وإسبانيا، ويحاول توظيفه بشكل سلبي للغاية. فهو يؤكد ارتكاز حملته الانتخابية على ما يسميه “حروب الاسترداد” إذ يتقمص دور القادة الإسبان القدماء الذين شنوا حروب الاسترداد. لقد دشن حملته الانتخابية من بلدة كوبادونغا في إقليم أستورياس، ويحتفظ التاريخ لهذه البلدة بأنها كانت أول نقطة انطلقت منها حروب الاسترداد في القرن الثامن الميلادي ضد الحكم الإسلامي حتى انتهت بسقوط غرناطة يوم 2 كانون الثاني/يناير 1492. ومن سخرية الأقدار يقدم سانتياغو أباسكال زعيم الحزب نفسه بمثابة الملاك الذي سينقذ إسبانيا من عودة المسلمين.

لقد حاول هذا الحزب خلق ضجة وإثارة سياسية عندما طالب المغرب بتحمل التكاليف المالية ببناء سور كبير يدور حول مدينتي سبتة ومليلية لمحاربة الهجرة، وهو بهذا نقل أطروحة الرئيس دونالد ترامب بالضغط على المكسيك لبناء سور لمواجهة الهجرة. في الوقت ذاته، استقطب بعض قادة الجيش القوميين، وهذا مؤشر مقلق، ووصل الأمر بصحافي معروف وهو روبين آمون من جريدة الباييس إلى التساؤل بسخرية “باستقطابه لعدد من الجنرالات، هل يعد فوكس للحرب ضد المغرب؟”.

عمليا، لن يكون لحزب فوكس تأثير مباشر على القرارات السياسية، لكن هناك تأثيرا من نوع آخر. فقد دفع بكل من الحزب الشعبي وحزب اسيودادانوس إلى محاولة منافسته في التشدد في قضية الهجرة وخاصة هجرة المسلمين، وبالتالي يدفع الآخرين نحو التطرف. وهذا يعزز من تفاقم خطاب الكراهية وسط المجتمع الإسباني. من جهة أخرى، يحاول استغلال التاريخ، وبالتالي يحيي أحقاد الماضي. والتحدي الذي تواجهه العلاقات المغربية-الإسبانية هو ثقل الأحكام المسبقة التي تستند إلى الجانب السلبي من التاريخ. الخطر الكبير لحزب فوكس هو توظيف كراهية الماضي في معالجة الحاضر والمستقبل، ويتزامن هذا مع التوتر القائم بين الغرب والعالم الإسلامي. ويكفي أن فوكس استقطب كل المفكرين والإعلاميين المتطرفين بل حتى بعض العسكريين القوميين الذين يؤمنون إيمانا راسخا بأن أكبر خطر على إسبانيا هو القادم من الجنوب، أي المغرب. وقد عاد الإنتاج الفكري المقيت الذي سيطر في إسبانيا تجاه المغرب إلى الواجهة مجددا، وبدون شك سيتفاقم. توظيف التاريخ ساهم في حصوله على10 في المئة من الأصوات في أول مشاركة سياسية له، ولم يحدث هذا مع أي حزب متطرف في أوروبا من قبل.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.