شذرات من تاريخ العرائش

العرائش نيوز:

محمد اليشيري:

العرائش هي واحدة من المدن التاريخية المرتبطة بالبحر ارتباطا وثيقا إلى حد استحالة الفصل بينهما عند تناول اسمها أو الإشارة إليها في معظم المصادر التاريخية الراصدة لها بالدراسة و التأريخ. و لا غرابة في ذلك، ما دامت مدينة بحرية بامتياز، تمتلك موقعا جيوستراتيجيا هاما تطل حدوده الطويلة على المحيط الأطلسي، و تشرف في جزء منه على ضفتي مصب نهر اللوكوس.  هذا الموقع الفريد، المنفتح على العالم البعيد و القريب، أهّلها لتعيش قديما و حديثا حقبا تاريخية مختلفة وحافلة، و تعزف على إيقاع حضارات عديدة و متنوعة…

فعبر تاريخها العريق، الذي يعود ابتداؤه إلى القرن الثامن قبل الميلاد رجوعا إلى الحفريات الأركيولوجية،  توالت على موقعها بالضفة اليمنى لنهر اللوكوس، حيث تنتصب هضبة (الشميس) الحضارات الفينيقية و القرطاجية و الرومانية و  أيضا الإسلامية. و جميعها استوطنت هذه الهضبة و عاشت فيها قرونا من الحياة العامرة و لعبت فيها أدوارا تجارية و بحرية هامة عبر مدى محيطها القريب و البعيد، أهّلتها لتنفذ إلى المصادر اليونانية و الرومانية القديمة كغيرها من المدن التي وطأوها، و تعتبر من أهم الحواضر ذات الأثر بعالم البحر الأبيض المتوسط في العصر القديم.

إلا أنها بالموازاة مع انحلال العالم الروماني خلال العصور الوسطى. عرفت تراجعا متواليا في شتى مجالات إشعاعها في السابق، و انقلب وهجها الحضاري الذي عرفته خلال قرون من الزمن إلى نكوص شامل، نحا بمختلف جوانبها نحو الأفول و الاندثار… و لم يتخلف منها سوى ما أورثته لنا من موقع أثري هام و أساسي في النسيج الأثري لبلادنا هو موقع ( ليكسوس) الذي لا تزال آثاره الثمينة و الفريدة إلى الآن، رغم عدم استكشاف الجزء الأكبر منها، خالدة و شاهدة على بصمات صانعي و مبدعي هذه الحضارات. و يكفي أن نشير إلى أنها احتوت في عصرها الروماني صناعات فخارية و غذائية هامة صدّرتها إلى معظم المدن المتوسطية و في طليعتها صناعة الغاروم  ((Garum  الذي أبانت المصادر التاريخية عن أرقام إنتاجه و تصديره القياسية، و أشارت إلى جودته المطلوبة و سمعته الطيبة لدى المجتمع الروماني الذي اشتهر بكثرة طلبه و تناوله…

بعد ذلك، اكتنف الغموض مساحة زمنية هامة من تاريخها و غلب الفراغ على مجمل المصادر و المظان المتناولة لهذه الفترة من تاريخ المنطقة في توثيق الحياة بها. و رغم اكتشاف بعض الآثار غير الفينيقية أو الرومانية بها كالمسجد و مرافق المياه الدالة على استيطانها و بعث الحياة بها بعد وصول الإسلام إلى المغرب. فإن شح المعطيات لا يسعف في كشف المزيد عن هذه الحقبة و عن تفاصيل زمنها..

و خلال القرن الثامن الميلادي، و مقابل هذا الموقع، في الضفة اليسرى لمصب نهر اللوكوس. ستنبعث الحياة بالعرائش من جديد، و باسمها هذا العائد إلى عريش النخيل المستعمل في بناء أولى مساكنها، و الذي صار غالب التداول بين المصادر التي تناولت تاريخ المنطقة. و ستنطلق في خطاها الحثيثة لتلعب أدوارها التاريخية الحافلة سياسيا و تجاريا و عسكريا عبر عصور مجمل الممالك و أيام أغلب الملوك و السلاطين الذين تعاقبوا على إدارة دفّات الحكم بالمغرب.

و في ذلك يذكر المؤرخون أن نواتها الأولى بهذا الموقع أسسها السكان المحليون من قبائل بني عروس. و منذ ذلك الحين و هي حاضرة و إن بدرجات متفاوتة، في الخارطة السياسية بالمغرب. خاصة  بعد أن صاغها الأمير محمد بن إدريس واحدة من ولايات مملكته الإدريسية و ولّى عليها أخاه الأمير يحيى سنة 825 م. حسب (ابن خلدون و ابن أبي زرع و غيرهما…)

و في أعقاب ذلك، و تحديدا خلال فترات حكم الموحدين و المرينيين سيحكم حضورها كثير من الجزر. إلا أنها لم تغب تماما عن قرارات بعض سلاطينهم الهامة. و نذكر في ذلك ما قام به السلطان  يعقوب المنصور الموحدي (1184 م – 1199 م) الذي أنزل بها العرب الهلاليين الذين جعلوها قاعدة لهم و ” أطلقوا عليها اسم العرايش فصارت إلى البداوة أقرب” (حسب الإتحاف لابن زيدان).  أو ما أقبل عليه السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق الذي شيّد قصبتها سنة 1259 م…

وخلال القرن الرابع عشر الميلادي، بدأت تكتسي أهمية اقتصادية و بحرية، حيث سينمو دورها التجاري مع الأوربيين و ستعود تستقبل تجار أهم المدن المتوسطية آنذاك مثل ميورقة و جنوة و البندقية… و لهذه الحقبة يعود تشييد (برج الجنويين) بواجهتها الأطلسية…

و لعل غناها في هذا المجال هو ما جعل أطماع البرتغاليين في ثرواتها تتزايد بعد احتلالهم لمدينة سبتة سنة 1415 فأقبلوا على  الإغارة عليها ليلا و نهبها ثم إحراقها و كان ذلك في شهر يوليوز 1417… و قد خلق ذلك رعبا شديدا لدى سكانها الذين أخلوها عقب هذه الغارة لفترة من الزمن. و لم يعودوا إليها إلا بعد إعادة تعميرها و تحصينها من جديد في عهد السلطان الناصر الوطاسي سنة 1491 الذي جعل منها ثغرا دفاعيا قويا يشق غزوه و يصعب اختراقه، مباشرة بعد إفشال احتلال جزيرة المليحة الكائنة في دائرتها عند أسفل الوادي من قبل الغزاة البرتغاليين.

و قد تعزز هذا التحصين في عهد السعديين… فمباشرة بعد معركة وادي المخازن سنة 1578 التي كرست الغلبة للمغاربة على خصومهم الإيبيريين… و تبعا للأهمية  المتزايدة التي أصبح يوليها الأوربيون للعرائش باعتباره أحد أهم الثغور الاستراتيجية بشمال المغرب، الذي صار يلحق بهم خسائر بليغة من خلال حملاته الجهادية في البحر، قام السلطان أحمد المنصور الذهبي بإضافة تحصينات جديدة (حصن النصر و حصن الفتح) مما أدى إلى الزيادة في إعمارها و استيطانها، و أهّلها للقيام بدور محوري في الدفاع عن السواحل المغربية. فصارت قاعدة تضاهي باقي المراسي الناشطة في الجهاد البحري كمرارسي العدوتين و غيرهما بعد استقرار الجالية الأندلسية بها… غير أن ذلك سيتهاوى مع الضعف الذي أصاب السلطة المركزية بالمغرب خلال سنوات أفول العهد السعدي، و ستنقلب العرائش إلى هدف يتربص به المتربصون الإيبيريون الذين لم يتوقفوا عن التحرش بها إلا بعد احتلالها سنة 1610. خاصة و أنها شكلت هدفا تنافسيا  بين إسبانيا و هولندا و فرنسا و إنجلترا، و أيضا تهديدا خطيرا لهم إذا ما وقعت في أيدي الأتراك الذين لا يضاهيهم أحد آنذاك في سيادة البحر.  و ذلك ما جعل الملك الإسباني فيليب الثاني يقول في شأنها: ( تساوي العرائش وحدها إفريقيا كلها).

دام احتلال الإسبان للعرائش 79 سنة،  أحكم المحتل  خلاله تحصينها العسكري انطلاقا من حصنيها الكبيرين (حصن الفتح و حصن النصر) و أضاف بعض التحصينات الأخرى  التي تخدم مصلحته العسكرية الاستعمارية. لكن هذا الاحتلال لم يكن ليطول إلى هذه المدة لولا الضعف الذي كان يعيشه المغرب خلال الفترة الفاصلة بين تدهور دولة السعديين و سطوع نجم دولة العلويين. فما إن تم التمكين للعلويين في المغرب حتى قام السلطان المولى إسماعيل بتحريرها و فتحها سنة 1689 . و عمل على وضع اللبنات الأولى لتحويل وظيفتها من ثغر دفاعي إلى وظيفة مدينة بمقوماتها الأساسية. هذه الوظيفة ستتعزز مع قيام السلطان محمد بن عبد الله بإضافة بنيات أخرى ذات أهمية قصوى كبناء الجامع الكبير و السوق الداخلي و الحمامات و السقالات و إقامات الطلبة… و السماح للأجانب من ممثلي الدول الأوربية الساهرين على التبادل التجاري بتشييد قنصلياتهم و مخازنهم داخل أسوار المدينة و قرب مينائها الذي ثم اعتماده كنقطة  تواصل رئيسية مع التجار الأوربيين في إطار سياسة الانفتاح التي انتهجها مما أهل المدينة لاستقطاب العديد من القناصلة من مختلف الجنسيات. خاصة وأن مرساها عُدّ في ذلك الوقت هو مرسى العاصمة فاس لقربه منها و للاعتماد عليه في التواصل مع الخارج سواء عن طريق  التبادل التجاري أو بتنظيم السفارات…

و بالموازاة مع الخطى الحثيثة التي كانت تخطوها مدينة العرائش نحو اكتساب المزيد من الأهمية، كانت الأطماع الأوربية فيها تنمو و تتضاعف، و لعل هذا ما دفعها إلى التعرض إلى العديد من الحملات العسكرية البحرية كالحملة الفرنسية سنة 1765 و الحملة النمساوية سنة 1829 و الحملة الإسبانية سنة 1860. التي خابت في احتلالها غير أنها أضعفتها و أثرت على أدوارها الريادية في التبادل التجاري برا و بحرا. إلى أن هيأتها لقمة سائغة للمستعمر المتربص…

و حيث إن مداخيل ميناء العرائش كانت جزءا من الحصة المالية التي التزم بها المغرب كشرط من شروط المعاهدة مع الإسبان إثر هزيمة حرب تطوان، فقد عاشت العرائش مرحلة تدهور ظاهر متماش مع تخلف السلطة المركزية استمر إلى سنة 1911 و هي سنة احتلالها من قبل الإسبان للمرة الثانية خلال تاريخها. لم تنته إلا مع استقلال المغرب… و هي مرحلة جديرة بالاستقصاء لآثارها العديدة على مستقبلها الممتد، بعدما تحولت من مدينة ضيقة محصنة بالبروج و الأسوار عائشة على المرسى و ما يدور في فلكها من أنشطة محصورة… إلى أخرى متسعة،  مفتوحة، و متطلعة إلى الجديد في رؤى العمران و التمدن و أساليب تدبيره بالطرق العصرية القائمة على هندسة الحاضر و استقراء المستقبل…


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.