خاشقجي والصدر وبن بركة

العرائش نيوز:

علي  انوزلا

عندما ينشر هذا المقال تكون قد مرت تسعة أيام على اختفاء الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، إثر دخوله مقر قنصلية بلاده في إسطنبول، من دون أن تصدّر أخبار مؤكّدة على أنه ما زال حيا أم أنه تعرّض لمكروه، وهو ما يدفع إلى الخوف من أن خبر اختفاء الزميل السعودي سيتحول إلى لغز كبير مع مرور الأيام، واستمرار صمت الجهات الرسمية المطلعة على حقيقة ما جرى، سواء منها السعودية التي اختفى داخل مبنى قنصليتها، أو التركية التي اختفى فوق أراضيها. الخوف الكبير أن يبتلع النسيان مصير الرجل الذي يملأ اليوم خبر اختفائه الدنيا ويشغل ناسها. 

وما يدفع إلى هذا الخوف تواطؤ الحكومات التي تعرف الحقيقة حفاظا على مصالحها، فما نشهده اليوم من تصريحاتٍ صادرة عن رؤساء دول ومسؤولين سياسيين كبار لا تفعل سوى إضفاء مزيد من الغموض بشأن حالة الاختفاء. وما يتم تداوله من أخبار متناقضة، مفزعة، بشعة، ومقززة في أحيان كثيرة، عن مصير الرجل، لا تساعد ألبتة في كشف الحقيقة، وإنما في تحويل هذه الحالة إلى لغز كبير سيبقى غامضا، مثل كثير من ألغاز الاغتيالات السياسية التي تحولت إلى أساطير معاصرة. 

المعطيات المتوفرة، والتصريحات المحسوبة الصادرة عن المسؤولين السعودين والأتراك، كلها تسعى إلى أن تٌقنعنا تدريجيا بوجود هالة كبيرة من الغموض تلف حالة الاختفاء. ومع مرور الوقت، تجعلنا نؤمن باستحالة كشف الحقيقة، والباقي متروكٌ لآلة النسيان الجبارة، حتى تتحوّل حالة اختطاف خاشقجي إلى مجرد ذكرى حزينة. وتذكّر حالة خاشقجي هذه بحالات سابقة ومشابهة لاختفاء معارضين سياسيين، يلفها غموض كثير حتى اليوم، على الرغم من مرور أكثر من خمسة عقود على حدوث بعضها، على الرغم من تغير الحكومات، وتبدّل السياسات، وموت المسؤولين السياسيين الذين كانوا قريبين من الحادث أو متورطين مباشرة أو غير مباشرة في تلك الحالات.

لا تقل حالة اختفاء خاشقجي غموضا عن حالة عالم الدين الشيعي اللبناني، موسى الصدر، الذي سافر إلى ليبيا عام 1978 بدعوة من زعيمها المغتال معمر القذافي، لكنه لم يعد منها منذ ذلك التاريخ. وعلى الرغم من سقوط نظام الليبي، ومقتل القذافي نفسه عام 2011، لم تٌكشف حتى الآن حقيقة اختفاء الصدر الذي شوهد آخر مرة في العاصمة الليبية طرابلس رفقة اثنين من مرافقيه منذ أربعين سنة، قبل أن يختفوا وإلى الأبد، وكل ما بقي من أثرهم مجرد نظريات متضاربة حول ظروف اختفائهم، لم تثبت الأيام منها أية واحدة.

والحالة الأقرب إلى حالة خاشقجي هي اختفاء المعارض اليساري المغربي المهدي بن بركة، عام 1965 في باريس. حدث ذلك قبل ثلاثة وخمسين سنة، عندما تقدم شرطيان فرنسيان من المعارض المغربي الذي كان يجلس في مقهى في الحي اللاتيني الباريسي، واصطحباه إلى جهةٍ مجهولة لم يعد منها حتى اليوم، وأدّى الحادث حينها إلى توتر في العلاقات المغربية الفرنسية التي تم تجميدها عدة سنوات قبل يطوي النسيان هذه القضية التي تحولت إلى مجرد ذكرى بعيدة، لا يكاد يتذكّرها سوى من بقي من أفراد أسرة المختطف، وبعض رفاقه الخلص. أما دم بن بركة فتوزع بين الروايات المتضاربة والمتناقضة، مرة يُنسب إلى المخابرات المغربية، وثانية إلى المخابرات الفرنسية، وثالثة ورابعة إلى المخابرات الإسرائيلية والأميركية على التوالي، لكن الحقيقة المرّة أن الزعيم الاشتراكي المغربي اختفى وفي ظروف غامضة إلى الأبد، وما زال إخفاء حقيقة اختطافه واغتياله يثير استغرابا كثيرا لدى كل المهتمين، وترك المجال لانتشار روايات مفزعة عن طريقة الاغتيال والتخلص من الجثة، ما بين روايات تقول إن الجثة قطعت إربا إربا، ورميت في نهر السين الباريسي، وما بين روايات تحكي عن فصل الرأس عن الجثة التي دفنت في غابات باريس، بينما نقلت الرأس إلى الرباط دليلا على أن المهمة أنجزت بإتقان، أما أفظع الروايات فهي التي تدّعي أن الجثة تم تذويبها في حوض من الأسيد!

وبالعودة إلى حالة اختفاء الزميل السعودي، وبالنظر إلى الظروف التي تمر منها المنطقة، وحالة الصحافة ووضعية حقوق الإنسان فيها، والوضع الدولي عامة الذي أصبحت أصوات اليمين المحافظ، بل والمتطرف أحيانا، تهيمن على مقاليد الحكم داخل أرقى ديمقراطياته، يصعب أن تصدر حقيقة اختفاء خاشقجي، وقد بدأت من الآن أصوات دولية تدعو إلى تركها للجان التحقيق الدولية، وتلك بدايةٌ لاستدراج الرأي العام إلى متاهة الألغاز، حتى يتم التطبيع معها باعتبارها لغزا، وليست جريمة. 

لكن قبل الجريمة، وهكذا يجب تعريف حالة اختفاء الزميل السعودي. هناك حقيقة بادية إلى العيان، ولا تحتاج إلى تحقيق أو صور كاميرا، وهي حقيقة النظام السعودي الاستبدادي الذي أباد آلافا من اليمنيين، وزج مئات المعارضين السعوديين في غياهب السجون، ولا يحتاج إلى ارتكاب جريمة أخرى لإدانته. وهناك أنظمة دولية متواطئة تهادن النظامين طمعا في أموال السعوديين، وحفاظا على وضعها الإستراتيجي في منطقةٍ تعتبر تركيا أحد لاعبيها الأساسيين. وما نشهده اليوم من تصريحاتٍ دبلوماسيةٍ خجولةٍ من كبرى عواصم العالم، هي مجرّد أدوار بائسة لرفع الحرج الذي وجدت فيه أنظمة ديمقراطية نفسها أمام جريمةٍ بشعةٍ ارتكبها حليفها المدلل فوق أرض حليفها الضروري، ضد صحافي أعزل، لم يكن يملك سوى كلماته المعتدلة والمهادنة في سعيه نحو الإصلاح الذي اضطر إلى ترك بلاده بحثا عنه. 

مع الأسف، بعد حالة غضب الأصدقاء والزملاء، وتنديد الحقوقيين، واستنكار السياسيين، وتصريحات القلق الدبلوماسي، وتناسل القصص والروايات عن اختفاء الرجل أو اغتياله أو اختطافه، بعضها يؤكّد ثبوت الجريمة ويشير بأصبع الاتهام إلى مرتكبيها، وبعضها الآخر يحاول أن يزيح الشبهة عن هذه السلطة أو ذلك الجهاز، سيسود التغاضي والصمت، وسيتولى النسيان صياغة خيوط باقي القصة، قبل أن تتحول إلى الأسطورة. وهذا هو المحزن أكثر في قصة اختفاء خاشقجي التي قد تتكرر مستقبلا مع أي صوت معارض، أو مستقل، في أي مكان داخل منطقتنا العربية، إذا مرّت هذه الجريمة بدون عقاب.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.