هل هي نهاية “البلوتقراطية”؟ علي أنوزلا

العرائش نيوز: 

علي انوزلا 

اضطر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في أول خطاب موجه إلى الأمة، بعد أربعة أسابيع من اندلاع احتجاجات “السترات الصفراء” في بلاده، إلى التراجع والتنازل والاعتراف بتحمّل المسؤولية فيما آل إليه الوضع الاقتصادي الذي دفع الناس إلى الخروج إلى الشارع. وذهب الرئيس الفرنسي إلى حد الاعتراف بأنه أساء فهم نيات المحتجين، والاعتذار ضمنيا عن الكلمات التي سبق أن استعملها في وصف المتظاهرين، عندما قال في تصريحات سابقة، قبل أسبوعين فقط، بأنهم مجرد “بلطجية” و”همج”.
ولعل هذه هي بداية فهم ماكرون الذي يوصف بـأنه الرئيس “المتعجرف” لحركة احتجاجات الغضب الفرنسي، بعد أن لم ينجح قرار حكومته بإلغاء الضريبة على الوقود في تهدئة الشارع، ولا يعتقد أن حزمة الإجراءات الجديدة التي أعلن عنها ماكرون نفسه قد تخفّف من حدّة الغضب النابع من عمق المجتمع الفرنسي، والذي عبر عنه بعض المتظاهرين بمطلب إعادة توزيع الثروة، وإقرار عدالة اجتماعية حقيقة، وإعادة السلطة إلى المواطن، بعد أن انتزعتها منه طبقة سياسية فاقدة للإحساس بهمومه، فأغلب الفرنسيين الذين انتخبوا ماكرون عام 2017 كانوا فعلوا ذلك عقابا للسياسيين الذين امتهنوا السياسة، حتى حوّلوها إلى مجرد لعبة مقيتة. ورأى كثيرون فيه مرشحا من خارج عالم السياسة، ونقيضا لـ “المؤسسة” التي نفر الناس منها ومن أهلها، لكن بعد قرابة سنتين من حكمه، اكتشف الفرنسيون أنهم خدعوا في سياسات ماكرون النيوليبرالية المدمرة، وبات بعض المتظاهرين يرفعون شعاراتٍ تطالب برحيله.
كان أول قرارات ماكرون، عند توليه الحكم، تقليص ضريبة الثراء، ما أكسبه لقب “رئيس الأغنياء”. وفي خطابه الأخير، تعهد مرة أخرى بأنه لن يفرض أية ضريبةٍ على الأثرياء، ما سيزيد من غضب المحتجين، وفي الوقت نفسه، تكريس هذه الصورة السلبية التي لحقت به، والتي بات خصومه يتخذونها ذريعةً لمهاجمته، وانتقاد سياساته والمطالبة برحيله.

لقد تحول نظام الحكم في فرنسا في عهد ماكرون إلى نوع من “البلوتوقراطية”، أي “حكم الأثرياء”، ليس فقط لأن ماكرون نفسه واحد منهم، وإنما، أكثر من ذلك، لأنه أصبح يمثلهم ويدافع عن مصالحهم في أعلى هرم للسلطة في فرنسا، وفي الوقت نفسه، يغض الطرف عن معاناة شرائح واسعة من المجتمع التي وصل عشرة ملايين منهم إلى ملامسة عتبة الفقر في خامس أقوى اقتصاد عالمي.
وليست ظاهرة نظم “البلوتوقراطية” جديدة في عالمنا، فهو تطوّر طبيعي لعملية سيطرة الأثرياء على الحكم، وخضوع العملية السياسية لتأثير أصحاب المال والنفوذين، الاقتصادي والإعلامي. ونكاد نجد نماذج كثيرة لهذا النمط من الحكم في أكثر من دولة تسيِّر فيها الطبقات الثرية الحكم، ولو من خلف الستار، لكن الصورة الأكثر تعبيرا لنموذج نظام “البلوتوقراطية” هو حكم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يجمع بين الثراء والانتماء إلى طبقة الأثرياء التي يدافع عنها بكل وضوح. وحتى إبّان حملته الانتخابية، جعل ترامب من تفكيك نظام الصحة الإجباري الذي أرساه سلفه الديموقراطي، باراك أوباما، لصالح الفقراء، إحدى أولوياته، على اعتبار أنه يخدم طبقة الفقراء، ويثقل كاهل طبقة الأثرياء.
وليس فقط ماكرون وترامب هما اللذان يمثلان نظام “البلوتوقراطية” في عالم اليوم، وإنما هناك أنظمةٌ كثيرة توجد فيها أنظمة قريبة منه، أو تسير نحوه على غرار الأنظمة “الأوليغارشية”، حيث تتحكم الأقليات النافذة ماليا واقتصاديا في مفاصل الحكم، وهذه نجدها في دولٍ كثيرة حولت فيها هذا الأقليات الآليات الديمقراطية من انتخابات ومجالس منتخبة وأحزاب وإعلام إلى واجهاتٍ لتمرير سياساتها وتحقيق أهدافها.
لكن في فرنسا، كما في أميركا، أصبح مفهوما الماكرونية والترامبية يجسّدان الجمع ما بين “البلوتقراطية” و”الأوليغارشية”، وهو نظام الحكم الذي يوجد على رأسه أثرياء ومسنود من أثرياء لخدمة الأثرياء عموما الذين يعتبرون أن الطبقات الأخرى وجدت فقط لخدمتهم بدرجات. وهذه نتيجة النظام النيوليبرالي الذي عمل عقودا على تدمير نمط عيش الطبقات الضعيفة، وتقوية مصالح الأثرياء وحمايتها.

وإذا ما أردنا اليوم أن نجد وصفا ملائما لطبيعة نظام الحكم في فرنسا في مواجهة غضب “السترات الصفراء” فهو بكل اختصار “بلوتوقراطية”، فرضتها طبقة الأثرياء على شعبٍ من “العبيد” انتفض اليوم في وجهها، فما كان بالأمس مجرّد “شائعة” ارتبطت بمسار ماكرون وثروته، أصبح اليوم واقعا قائما جسّدته تصريحات الرئيس الفرنسي نفسه وقراراته، وجاءت ثورة “السترات الصفراء” لتكشف عنها الغطاء نهائيا.
إننا أمام مفترق طرق كبير، من شأنه أن يعيد تعريف الأنظمة التي تحكمنا اليوم، وإعادة صياغتها. وإذا ما استمرت احتجاجات “السترات الصفراء”، وامتد غضبها إلى دول غربية أخرى، وإذا ما ارتفعت حدة الانتقادات للسياسات الشعبوية لترامب في بلاده وفي الخارج، يمكن أن نصل إلى المرحلة التي ترضخ فيها الطبقات الثرية التي تحكم بلدانها، وتحكم العالم عبر الشركات العابرة للحدود، لطلبات الطبقات المقهورة، وتبدأ بالإنصات إلى نبض الشارع الذي يتحرّك مثل موجات “تسونامي”، تتشكل في الأعماق، قبل أن تغمر اليابسة في غفلة من الجميع. وهذا هو ما حصل في فرنسا مع موجة “السترات الصفراء” التي لا يمكن التنبؤ بمدى استمرارها وبحجم الأضرار التي ستخلفها إذا ما تراجعت، لأنها ستتراجع ذات يوم، لكن بعد أن يصبح صوتها مسموعا وعاليا.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.