الرحلة، الرحالة و العرائش خلال القرن التاسع عشر:الحلقة السابعة

العرائش نيوز:

بقلم: عزيز قنجاع

ح/التأثير الثقافي للوجود الإفريقي بالعرائش وأحوازها:

إذا كنا لا نتوفر لحدود الآن إلا على إشارات تؤرخ للأنواع الموسيقية التي هيمنت على المجال الفني بمدينة العرائش فإن الخبير بهذا الشأن يعرف جيدا أن العرائش عرفت تواجدا كثيفا لفرق كناوة، بل جل الأهازيج الموروثة تنبني في إيقاعاتها على العنصر الكناوي كإيقاع مهيمن، ونجده بالحضرة العرائشية أساسا، وتجب الإشارة إلى أن كثافة تواجد العنصر الإفريقي بمدينة العرائش أثار تعجب الرحالة الفاريس بيريز. فعند دخوله للعرائش في بداية القرن التاسع عشر تعجب من سحنة سكان مدينة العرائش وقال إن سكان العرائش جميعهم من السود. وإذا كنا قد حاولنا أن نجيب عن هذا التعجب الكبير الذي انطبع به هذا الرحالة الذكي، وحاولنا في حلقة سابقة بالتساؤل حول البنية الديمغرافية والإثنية للعرائش الحديثة التي ستبتدأ منذ سنة 1689، أي سنة تحرير العرائش على يد السلطان مولاي إسماعيل. وتتبعنا الاستيطانات المتتالية والكثيفة للعنصر الإفريقي بالعرائش ممثلا في الجيش السلطاني عبيد البخاري.

خ/ زهجوكة من أصول إفريقية:

أما اليوم فتعرف بزهجوكة الجبل تمييزا لها عن قرية أخرى تحمل نفس الإسم، وهي زهجوكة العرب. تتميز زهجوكة بتقاليدها في الموسيقى الجبلية وهي معروفة بذلك عالميا. ذكر ميشو بلير أن سكانها في أواخر القرن الثالث عشر (19م) وبداية القرن الذي يليه كانوا حوالي 850 نسمة كلهم من البواخر الذين كانوا طبالة وغياطة، وكان بها 150 منزلا ومن المعروف أن فرقا متعددة من جيش البواخر استوطنت نواحي القصر الكبير منذ عهد السلطان مولاي إسماعيل في ظروف مختلفة.

 ولا يبعد أن يكون مستوطنو زهجوكة قد كانوا في الأصل من فرق العازفين في هذا الجيش، وأشار محمد المغراوي “معلمة المغرب الجزء 14 .2001 مادة زهجوكة ص 4731-4732 “وقد صار عازفوا زهجوكة خلال القرن التاسع عشر يكونون فرقتين موسيقيتين رسميتين كانتا تتناوبان العزف بدار المخزن بفاس شهرا لكل واحدة منهما. كان لهؤلاء العازفين بزهجوكة دار عرفت بدار المعلمين كانت مدرسة لتعليم لموسيقى الجبلية المعروفة. وقد توارثت الأسر الزهجوكية هذه الموسيقى، الشيء الذي ضمن استمرارها عبر الأجيال، وتؤكد علاقة غياطي زهجوكة بالمخزن في القرن التاسع عشر مجموعة من الظواهر السلطانية التي لاتزال بأيدي عدد من أبناء أسر زهجوكة.

 

ونجد في كتاب “أغاني السقا ومعاني الموسيقى” لإبراهيم التادلي ذكرا لهذا الثراء الموسيقي الذي عرفت به مناطق الجبلية فنقرأ ”بل قيل في بلاد الجبل نواحي مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه ”ت 625-1227″ التي هي معادن الموسيقى والطرب وإليها دون غيرها من البوادي يخرج كل عام فيها طبع لم يسمع مثله قبله كما أخبرت بذلك” وذلك ما أكده الأستاذ عبد الوهاب بن منصور في كتابه قبائل المغرب ج 1 اذ قال ”زهجوكة مشهورة بين قبائل جبالة بالرقص والغناء وتضرب بها الأمثال في ذلك ”وتعرف عموما منطقة جبالة نشاطا موسيقيا في إطار العيطة الجبلية، ومعظم الفرق الغنائية تنتشر في المنطقة الممتدة على مساحة أقاليم طنجة تطوان شفشاون والعرائش القصر الكبير وتاونات، كما أن عددا وافرا من هذه الفرق تزاوج بين العزف الآلي ”الطبل والغيطة” والغناء الذي تصاحبه آلات الكمنجة الكنبري البندير الطبل وفي بعض النماذج الغنائية في العيطة الجبلية يتم استعمال آلات النفخ كالليرة والكصبة و الغيطة أحيانا.

 من أشهر أشياخ العيطة نذكر الشيخ أحمد الكرفطي، الشيخ محمد العروسي، الشيخ حاجي السريفي، الشيخ بريطل، الشيخ الخمسي، فضلا عن الراحلين الكبار من أمثال الشيخ عبد السلام العطار، قائد فرقة جهجوكة التي اشتهرت عالميا، الشيخ محمد الغيائي، الشيخ محمد بن العربي، المعلم عبد الرحمان الحلو.

 وفي كتابه ”غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب”، ذكر حسن نجمي أن الباحث في فن العيطة أحمد عيدون قام في كتابه ”موسيقات المغرب” بفصل موسيقى جهجوكة عن العيطة الجبلية والطبل والغيطة، قائلا: والظاهر أن الأستاذ عيدون لم ينتبه إلى أن مجموعة جهجوكة تراوح بين الآداء الموسيقي الآلي ”الطبول والغيطات” والغناء العيطي، في نفس الآن. بل إن هذا الأداء الآلي يتم وفق القوالب الكبرى للعيطة، كما أن هذه المزاوجة في الأداء تعتبر من ثراء الموسيقى التقليدية المغربية كما جسدتها العيطة تحديدا” ردا على الحجج المنهجية للأستاذ أحمد عيدون التي تبدو قوية إذ يقول ”في كتابي، فصلت الحوزي وموسيقى جهجوكة والعيطة الجبلية عن إطار العيطة لاعتبارات تتعلق بطبيعة الخطاب الموسيقي الذي يقدمه كل نوع من الأنواع المذكورة، رغم أنني أتفق مع الرأي الذي يقول بأصل واحد …كما أميز جهجوكة عن العيطة الجبلية لأن جهجوكة لها طابع آلي والعيطة لها طابع غنائي.

 

وقال حسن نجمي في المرجع السالف الذكر أنه يصعب على من لا يعيش في فضاء العيطة الجبلية أن يفهم عددا وافرا من مفردات معجمها إلا أن عادة الإنصات تساعد على ربط الألفة بهذا المعجم الثري لغويا وصوتيا وشعريا ودلاليا، وللدلالة على ذلك ساق هذا المثال الشعري للعيطة الجبلي”يا هدير النحلة ..شي نحلة ما ريتا …بلاد الناس عمرتا ….وبلادي خليتا”. وللعيطة الجبلية نمطها الغنائي المتميز وشكلها وقالبها وأنغامها وإيقاعها، بل ويعتبرها المرحوم محمد الرايسي ذات ملامح متوسطية وتشابه معين بأهازيج حوض البحر الابيض المتوسط، وكما ألح المرحوم الرايسي والمرحوم محمد بوحميد بعده ينبغي الإلحاح على أن من الخطأ الموسيقي أن يطلق اسم الطقطوقة على العيطة الجبلية. وفي نظري أن من أهم مميزات العيطة الجبلية مقدمتها واستهلالاتها ومطالعها الغنائية وهو ما لم يتعرض له أي مصدر، ونقصد بذلك المطالع الغنائية المعروفة “بأعيوع” وهو استهلال غنائي متميز بنغمته الفريدة والذي يؤدى دون مصاحبة موسيقية عادة ..يتم خلاله استحضار أوجاع الفراق والعائلة والهجرة والآلام التي تعد رحى النظم الشعري الجبلي، فهي الشكوى والشاكي وهي الحب والسد المانع لحب الحبيب، وهي الأرض والحنين، إذ تعتبر الآلام في الغناء الجبلي الحجر الذي يشد النظم إلى قرون الغناء. وقد أبدعت الفنانة شامة الزاز في هذا المجال وقدمت تراثا أصيلا لأعيوع إلى جانب الأستاذ المرحوم محمد العروسي .”

وقد اعتبرت الباحثة أمينة المستاري أن “أعيوع” شكل من الأشكال التعبيرية للمرأة القروية بمنطقة تاونات، اختصت به النساء في البادية لعرضه بلباس متميز على شكل عيطة زجلية ارتجالية على نغمات موسيقى “الغيطة”. إلا أنه من الملاحظ ان أعيوع صاحب أداء العيطة الجبلية بكل مناطق جبالة من قبائل انجرة شمالا إلى تاونات جنوبا. والجدير بالذكر، ورغم إبداع الأستاذ محمد العروسي رحمه الله في أداء مطالع ”أعيوع” إلا أنه في جل المناطق الجبلية بقي لصيقا بصوت المرأة الجبلية. وبعيدا عن الأجواق الموسيقية فإن “أعيوع” وإلى الآن يؤدى بالتناوب بين نساء مناطق جبالة في الحقول أثناء قيامهم بمهمة ”أغَلّال”، وهي عملية تقوم بها النساء في الحقول لجمع سنابل القمح التي أغفلتها مناجل الرجال، وتنصب مواضيع ”أعيوع” على هموم المرأة وأغراض أخرى وتكون مواضيعها غالبا مرتجلة ووليدة اللحظة، أما في الأعراس فتتنطح بعض النساء للصدح “بأعيوع” وتكون مواضيعها الشكوى من طلاق أو هجر أو معاكسة درتها لها ومطالب أخرى متعددة تدخل في باب الخاص .


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.