العرائش نيوز:
كم هو جميل أن تكون شاهدا على مرحلة من المراحل الانتقالية في مسيرة عمرك، حيث تصير وثيقة حية ناطقة باسم تلك المرحلة إذا لم تخنك الذاكرة.
وبالرجوع لأيام زمان، فإننا ولله الحمد نلنا نصيبنا من الشواهد على عدة مراحل ومن بينها الانتقال من غسل الشعر بالصابون إلى غسله بالشمبوان، أيام كان الاستحمام لا يتم إلا في الحمام الشعبي في أواخر كل أسبوع أو أسبوعين ولما لا شهر في الأيام العجاف. كانت الحمامات للنساء نهارا، وللرجال ليلا وبعد الفجر، وكانت فترة انتظار خروج النساء تتطلب وقتا طويلا وصبرا جميلا، وإذا مانفذ الصبر، نمر لمرحلة الاستفزاز بطرق الباب بقوة وكأننا نقرع الطبول إيذانا بفتح القسطنطينية. كان الحمام الكبير بباب البحر هو المفضل لنا جميعا ونقطة لقاء الأصدقاء والتلاميذ، وهو الحمام الأكثر أمانا بخلاف الحمام الصغير الذي كان يغتسل فيه الإنس والجن معا في انسجام تام وتسامح قل نظيره.
والحقيقة تقال كنا لا نعرف معنى شمبوان آنذاك، إذ أن صابون “حجرة” أو “طرف” كان سلاحنا الوحيد للتخلص من طبقات الغبار المتراكمة على مدار الأيام على أجسادنا في غياب طرق مبلطة وفي وجود ملاعب تزخر بتنوع تربتها من حمري، تيرس وطين ( الذباغة- النافكو – باب البحر – البرامل) وهي تسميات لأهم المنتجعات الرياضية المحيطة أو القريبة من حينا. عادة ماكان هذا الصابون يلتسق بالمستطيل الخشبي المخصص له أعلى “الفرَّاكة” حيث نضطر لقلعه أحيانا بالأظافر وكأنه كان يرفض ويندد بهذا الاستعمال الخارج عن الاختصاص.
شاءت الأقدار أن نتعصرن بخطى بطيئة، فتعرفنا على ثلاثة أنواع من “الشمبوان”
1 -ويلا wella وكنا نصنفه كمنتوج للطبقة البورجوازية رغم أن ثمنه لم يكن يتعدى الدرهم الواحد، يُقال أنه كان يرطب الشعر ويقضي على تجاعيده، (وشوووف مفهوم البورجوازية عند المزاليط، كانت مقلوبة علينا القفة والشواري).
-2دوپ DOP للطبقة المتوسطة 0.40 درهم بنكهات متعددة الليمون، الفرولة، الخزامة ………
-3دوف DOV أو دوپ مزور 0.20 درهمُ كاد أن يكون شمبوانا لولا أنه عديم الرغوة. كان كل واحد منا يشترك مع صديقه لشراء كبسولة “دوف” مجسدين المعنى الحقيقي للمقاربة التشاركية.
فبمجرد تخطي عتبة الحمام، نلتف يمينا حيث توضع الأسطال ليختار كل واحد منا اثنين، العدد المسموح به، ليفوق العدد ستة بعد انطلاق المباراة. لم نكن نتوفر على حقيبة اليد، الملابس النقية داخل قفة والمتسخة التي نخلعها تُكدَّس في الجلباب بعد أن نعقد الكمين معا مع “القب” فنحصل على كيس صوفي يفي بالمطلوب. نسلم المتاع ل “با الفقير” رحمه الله وعيننا مركزة على الرفوف لتحديد مكان وضع متاعنا تسهيلا للحظة الاستلام…
ننطلق مباشرة الى الجناح الأول “السخون” نقوم بمسح طوبوغرافي للمكان لنعثر على مساحة تمكننا من الانبطاح على الرخام الأبيض بعد تنظيفه بسطل أو سطلين من الماء الساخن وننتظر من جسمنا طرد ما كنزه من غبار…. الحمام يضم جميع شرائح المجتمع، لايفوتنا الأغنياء الا بخدمات “الكسال” وأذكر منهم ” الهوى” و “القصري”، مِن مَلأ الأسطال وحصة “الحك” و ” التكسال”، أما نحن فسياسة التناوب التي تبجحت بها الأحزاب مارسناها بحك كل منا ظهر الآخر بمربع من الزليج الأرضي الرمادي ذو الوجهان، رطب وخشن، تسميه الفتيات “الشّْوينة” يلعبون بها “الْكَراكُورْ”، أو حصى الوديان المسطحة من الحجم الكبير ما نسميه ب “المحكة”، بعدها ننتقل للجناح الثاني” الوسطي” هناك يتم غسل الرأس بالمحلول العجيب “دوف” حيث نحتار كيف نقتسمه بالتساوي ويتحاشى كل منا فتح الكيس بالأسنان مخافة بلع قطرة من السائل العجيب أو ضياع قطرتين تحتسب من قسمته هههه… ومن لم تسعفه الظروف لشرائه فان التسول محمود بل ويُمَكّنك الفوز بمنتوج أفضل إن كانت صفحة وجهك تساعد على المهمة.
بعد الاغتسال بالصابون، “طرف” طبعا، نمر للجناح الثالث “البارد” حيث نستمتع بصب أسطال المياه الدافئة إلى باردة دفعة واحدة تحت صيحات “الهوى” بعدم التبذير، وإذا كان الملعب فارغا فلا بأس من عملية التزحلق بعد تمشيط الأرضية من شفرات الحلاقة الطائشة، ودهنها بماتبقى من الصابون، وأظن أن فرحة لاعبي كرة القدم بالتزحلق على ركبهم فوق العشب بعد تسجيل الهدف، ماهو إلا تقليد لتزحلقنا الأصل هذا.
نخرج إلى”الگلسة” لأخد قسط من الراحة منتظرين هبوط الزئبق معلنا بداية حصة التنشيف. كانت الفوطة تكفي لشخصين، كل يحترم حدود نصفه إذا كانو إخوة، وإلا فالأسبقية للمالك ثم بعده الثاني ولما لا الثالث.
بعد عملية التنشيف وارتداء الملابس، تأتي مرحلة الاسترخاء والمسح الطبغرافي ثانية في أرجاء الگلسة حيث كانت بعض العادات تصاحب الاسترخاء كأكل البرتقال الذي يفرغ في سطل مملوء بالماء ليرقص قليلا قبل أن يستسلم للأظافر، أو شرب مشروبات غازية، وعادة ما كان يسود الكرم، إذ نحظى مرارا بهدية ممن هو عن يميننا أو شمالنا ب “سْنُّوف أو جوج” من البرتقال بعد أن تخترقه نظراتنا الثاقبة، وأحيانا كنا نشترك في قنينة فانتا المحبوبة أو لكل واحد قنينته إذا صادفت “التحميمة” عيدا من الأعياد.
بعد ارتداء الملابس والعمل بنصيحة “غَمْغَمْ”، وشرب الماء خوفا ابتلاع هواء البحر “السُّفَّيْطي” والحلق ساخن، لا يبقى لنا سوى الانصراف وما أدراكما الانصراف، الذي يسبقه الأداء وما أدراك ما الأداء حيث كنا نمر أمام “با الفقير” رحمه الله وكان رجلا طيبا أكثر مما نتصور، وجدي لأقصى درجة، وكان يعاني من تصرفاتنا الحمقاء أحيانا ( اللهم اغفرلنا وله وارحمه وأسكنه الفردوس الأعلى) إذ هو الذي يحدد ثمن “التحميمة” الذي كان رهينا بالعمر والذي يقاس بالقامة، فالصغار يؤدون نصف ثمن الكبار، وهنا لحظة التحايل، فعند المرور أمامه،إذا كنت تجيد الانحناء بلا “تعياق” فستؤدي ثمن الصغار في غياب تقنية الفار VAR، وإلى اللقاء في نوستالجيا قادمة باذن الله.
✍️ يوسف التجاني