“بالكون أطلنتيكو ” Balcon Atlantico

العرائش نيوز:

محمد جزار

تذكر وأنت تحاول إذكاء فتيل الحياة في رميم الماضي، واستنشاق طراوته التي ما تزال عالقة في أنفاسك، كأنك تنقش حروفا في الخواء أو تعاكس التيار أو تسعى بعصا سحرية خارقة لاستعادة ذاكرة سحيقة تئن تحت ركام من الغبار والنسيان.
صحيح أنك لن تسبح في النهر مرتين كما قيل، لكن في كل الأحوال النهر باق وجريانه الدافق أبدا لن يتوقف.
إنه شموخ عنيد لملاح مغمور، هكذا هو دائما وجه المدينة، لا ينفك يعارك ويقاوم، رغم التجاعيد وتصاريف الزمن وهدير الأمواج المتلاطمة بعنف بالحاجز السميك لدار البحر ناحية ” باالغرباوي ” * ، وبصخور شاطئ ” عين شقة” ، والحصون التاريخية المزودة بمدافع حملت أسماء رموز المقاومة العرائشية.

في حضرة سي المجذوبي، ابن المدينة وشاهد عيان الماضي الغابر للشرفة، تنشرح نافذة قديمة مثخنة بالحنين، بروح دعابة خفيفة، لازمت أحاديثه وقفشاته، يسافر بك في جغرافيا الشرفة الأطلنتيكية، ليس كمكان فحسب، بل كذاكرة عابقة بالبهاء والجمال.


لا يمكنك تخيل الجمال الباهر لتلك الفترة، يبوح سي المجذوبي بحسرة، مشيرا إلى مقهى يتوسط شريط الشرفة، شربت قهوتي في ذلك الفضاء الجميل قبل أن تطاله معاول الهدم، إنه بار صغير، لم أعد أتذكر اسمه، مساحته لا تتعدى مئة متر مربع، يطل مباشرة على البحر، تحوطه الحدائق من كل جهة. وبعد تنهيدة عميقة أكمل :
– لو كانت للرئة ذاكرة لتحدثت عن رائحتين فقط من بين كل النسائم التي ملأت رئة المدينة ٱنذاك، الزهر خلال النهار ومسك الليل مساء.
ويا لها من شياكة وأناقة في اللباس ! ، لاسيما بدلات ” الطراخي ” * والطراببش العصرية والأحذية الكلاسيكية اللامعة،
الجمال الفاتن للنساء،
نضارة الأطفال وهم يلعبون ويذرعون بصخب ومرح ممرات الشرفة،
النور اللامع من الشوارع، كيف لا يسطع وهي تكنس وتسقى كل صباح بشاحنات نظافة خاصة !؟،
مواعدات العشاق وقبلاتهم العفوية قبل أن تدرج ضمن كناش المحرمات وتصبح مسترقة بعيدا عن حماة الحياء العام،
شبان عرائشيون من محبي الموسيقى الغربية يبعثون أغنياتهم كرسائل راقية على بساط الريح ومن تحت هدير الماء لأصدقائهم في الضفة الأخرى cat Stevens و Neil young وغيرهم، كما لو أنهم يتماهون بنفس الذبذبة ونفس الحساسية الفنية، لا يفرقهم في ذلك سوى مقص الجغرافيا اللعين،
الشارع الرئيسي للشرفة الذي يحتضن عروض السيرك والألعاب وحلقات الفرجة خلال الموسم الثقافي والسياحي لأسبوع العرائش، عرائش البرتقال والمندرين والعنب والياسمين …


على طول الشرفة حدائق مزدانة بكل أنواع الورود، فيما تعلو ممراتها سقوف خشبية من جهة اليمين وعند الوسط، وقد تدلت منها أوراق ” اللواية ” ” الدائمة الخضرة أو داليات العنب، يتوسط قلبها Bar صغير ما يزال صامدا لحد الساعة، ذو شكل دائري بسقف خشبي منحدر في اتجاه حواشي دائرية محاطة بأعمدة لولبية، وطابق تحت أرضي غير عميق، وسطيحة مرتفعة نسبيا تعلو الكراسي الخشبية التي تملأ ممراته الجانبية، حيث توزع فيه جميع أنواع المشروبات من عصائر ومونادا وقهوة وشراب لمن يستحسنه من العائلات، وهو فضاء مثالي جدا للفرجة ورسومات الفنانين التشكيليين والعروض الموسيقية ورقصات البايليه التي تتوج عند نهاية كل وصلة بتصفيقات الجمهور.


حين يكتظ الشارع بالحركة والزحام مساء، نجلس في المقهى ونحن نتأمل اللحظات الأخيرة للغروب . نتملى رحلة مراكب الصيد وهي تمخر عباب الماء وتتوغل عميقا في الأزرق الأطلسي.
كم أنت شاسع أيها البحر، حين تتزاحف مشاهدك التي استغرف أبناء المدينة من إشاراتك وتقلباتك وألغازك، نفائس الدروس والعبر قبل أن يقذفوا في معترك الحياة ! تعلموا من يومياتك قاموس الكر والفر في تلاطم أمواجك، هدأة الصديق وصخبه، بعدك السحيق، خلجانك، لمعانك، أحجارك البنية المهترئة وهي تغزل من عنف الارتطام نشيدها الأبدي، غروب شمسك المبلل، هتافات البحارة بالصلاة والسلام على النبي، أنجم سماءك الناصعة، منارتك البعيدة وهي ترشد سبل ليلك المعتم، دلافينك وهي تصطحب بمرح طفولي لا يقهر جولات المراكب في أحشائك، نكهتك النحاسية البراقة حين تكسو واجهات البنايات والمنازل وقد أطلت الوجوه من أعلى البالكونة، تنتشي رحابتك وموسيقاك التي تذيب أماسيك الكئيبة .. !

الشرفة مرٱة صافية لوجه العرائش المشرع نحو الشمس والأفق الشاسع للأطلسي، المنفتح دوما على كل ما جادت به الحضارات الإنسانية عبر التاريخ منذ عهد الفنيقيين. إنه تلاقح تاريخي الروح عصري الملامح، ترك، رغم إكراهات المرحلة الكولونيالية، بصمات حضارية وثقافية لا يمكن محوها في وعي النخب والساكنة، في العادات وأسلوب العيش واللباس والطبيخ والعمران وغيره، بحيث أن بنايات العرائش الحديثة تعد، بحكم فرادتها وتنوعها، متحفا حيا لمدارس الهندسة المعمارية عبر العالم، منذ عشرينيات القرن الماضي، وكانت الشرفة الأطلسية محجا للساكنة الإسبان والمغاربة على حد سواء للتنزه والإستمتاع ببانوراما خلابة مفتوحة على جميع أشكال الفرح الإنساني.
” في وقت كان فيه الفنان فنان، والموسيقي موسيقي، والمهندس مهندس ،،، وكل من جهته، يقول سي المجذوبي، يبذل قصارى جهده، ويشتغل بكل ما أوتي من إيمان وموهبة لأجل إسعاد الناس ” .

لكن للأسف لم تعد صباحات بالكون أطلنتيكو ومساءاته مشرقة كما كانت في الماضي. أصبحت ملامحه شاحبة مقفرة كروتين ثقيل جاثم على أنفاس المدينة المزكومة بالرطوبة أصلا. نفس الصور والمشاهد تتلاحق كل يوم. لعل البحر شاهد على شرود جماعي لا مجد في عيونه المطفأة من فرط الرتابة والتكرار. موج يلاحق موجا، وماذا بعد !؟ وارتطام بالصخر، رذاذه يتطاير إلى الأعلى، تحمله الريح فترش وجهه المغبون، فيضطره للاستيقاظ، ينتابه اشمئزاز صامت يعكر صفو الغياب في كنف اللحظات الهاربة، فيما صدى الصرخات المكتومة يتلاشى في تجاويف البحر، وقد التحف الخيوط الأولى لحلكة الليل. يطبق الظلام على أنفاس الشرفة كأن أحلام النهار تتقمص وجه أشباح مدبرة إلا من المراكب التي تبعث أضواءها كقناديل بعيدة.
نفسها الشرفة البئيسة التي قال عنها الراحل محمد شكري في زمن أخطائه ” إست على الحجر، وعين على البحر، وأذن على الخبر ” .
فلا شئ تبقى من بالكون أطلنتيكو سوى إطلالة يتيمة في وجه البحر، وحتى الإطلالة لم تعد طقسا مشوقا. ببرود ولامبالاة أصبح الكل يدير ظهره للبحر، مع كل غروب مكرور، حين ينطفئ وهج الشمس، وتزحف جحافل الظلام لتضع حدا للأحلام وقد كستها غشاوة صفراء لأعمدة كهربائية كأنها تبعث أضواءها الباهتة من بطاريات شموع وليس ڤولط ” دار الضو ” ، فيما صفوف متراصة من عربات الزريعة و ” تشيبس ” و ” البابوش ” و ” التركية ” قد غزت جنباتها المتشققة والمتسخة.

الشرفة الأطلسية ٱخر الملاذ. الحضن الدافئ الرحيم الذي يأويك لما تضيق بك الأرض، حين تختنق أنفاسك ويركلك القنوط ويزحف الإسمنت الرمادي وهو يقضم بماكينته البدوية الفجة والخشنة الشوارع والمحجات والحدائق وما تبقى من المعالم التاريخية والبنايات العتيقة ويحجب عنك حتى رؤية البحر ورقص النوارس.
.
الشرفة الأطلسية حلم لا يتوقف، وتوق أبدي إلى ما هو بعيد ومجهول، وتدفق مستمر لأمنيات خفية تسافر مع كل غروب نحو الضفة الأخرى.
ما بين بالكون أطلنتيكو والضفة الأخرى مسافة ملغومة، ومسلك محموم لحالمين بالعبور إلى هناك. هناك حيث الحلم الراقد خلف المدى، وهج حياة باذخة الجمال، حدائق غنّاء، غابات فرح، وعناقيد مسرات، وما بينهما توابيت مائية تلتهم بشهية قروش شرسة كل الحالمين، ممن تقاذفتهم أمواج الفقر وظلال الحروب والمجاعات وضحايا الاضطهاد وقمع الحريات وأي رهاب ٱخر، وٱثروا ركوب قوارب الموت.

للشرفة الأطلسية دهاليزها الخلفية أيضا، حيث تتربع عصابة من ” الصعاليك ” عرش السور الشمالي الظليل لمقبرة سيدي علال بن احمد العسري، المطل مباشرة على شاطئ ” عين شقة ” المعروف ب ” خباطة ” ، حيث تعج به حركة صيد سمك ” البوري ” بالخطاف، وتنشط على رماله الواطئة، إلى وقت قريب جدا، دوريات كرة القدم المصغرة، وتداريب و ” شقلبات ” المعلم الجمبازيست ” حميد ميطو ” ،
فيما فتيان ضائعون بين الأحجار، منشغلون بصيد ال ” كانگريخو ” * وال ” پولپو ” * بالطعم والمشواة،
المياه العذبة للعيون المتفجرة هنا وهناك، والتي يحلو التقرفص بقربها خاصة عندما يكون الجو حارا، ولشدة ولع أحدهم بها، ارتقى إسم شهرته، وهو ” ع. الجباري ” ، إلى رتبة ” مهندس العوينات ” ، دون ديبلوم طبعا ، حيث تفنن في تزيين حواشيها وزخرفتها بالزليج البلدي ومحار البحر Coquillages ،
كما شكل نفس المكان ملاذا ٱمنا للهاربين من مطاردات الميليشيات النظامية والحزبية التي أعقبت فترة الاستقلال، وقد انكفأوا على أنفسهم وارتكنوا إلى مربع الولي سيدي بوقنادل، أو للا عايشة البحرية، وهم يبوحون بما تجرعوه من فظاعات لحقت برجال المقاومة وجيش التحرير، ويحكون بخيبة ومرارة عن صفحات من بطولاتهم وتضحياتهم في عز الشباب، لم تعد أياديهم تحضن بندقية أو رشاشا أو أي سلاح يذكر، صار بحوزتهم فقط قفيفة دوم صغيرة تكفي لحمل ما يؤكل ويشرب و ” فراكة ” روج بلاستيكية لتعديل المزاج وأعشاب دخانية للنسيان،
حصون دفاعية أمامية مهترئة شيدها السعديون تتقدم حصن الفتح الأكبر، حيث تٱكلت معالمها وأصبحت عاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها، إذ جرفتها مياه البحر وضاعت بين صخور الشاطئ، فانطمس جزء ساطع من سجل عرائش المقاومة عند الواجهة البحرية، وتلاشت معه تواريخ وأسماء ورموز كمدفع عائلة الرزامي وعدد من المدافع عند بطارية سيدي بوقنادل وبرج سيدي ميمون.

منذ باكورة النهار، يتقاطر ” صعاليك ” عين شقة على السور الظليل الذي يعتبرونه حائط مشرب وليس مبكى، كأنهم على موعد مع نشوة نيئة لم تكتمل منذ البارحة ويرغبون في إنضاجها، كل الشهوات في حوزتهم؛ على شمالهم محل الإسباني ” أندريه مولى ” لبيع الخمور، وعلى يمينهم ما لذ وطاب من خيرات سوق ” البلاصا ” ، وخاصة السمك.
عند أسفل السور ينبعث من مسجلة أحدهم صوت الثائر ” راسطا مان ” الذي لا يمكن تخيله دون ” ماريوانا ” وضفائر شعر أسود خشن ومنفتل وهو يلوح به، لحظة جذبته القصوى، ويدفع به في كل إتجاه، كدليل على العنفوان والتمرد، وخوليو إگليسياس برومانسيته الناعمة، وأغاني الروك الساخرة من خرافة البطل الأمريكي الذي لا يقهر.
وفي المساء لما يأخذ ” الكوول ” منهم مأخذه، يتوجهون ناحية السيرك، ويتحلقون حول منصته الرئيسية، حيث يرابضون ويصرخون ويحتجون في وجه الٱنسة ساندرا التي لم توفيهم حقهم في الرقص والغناء، وهي تتحرك وتتمايل بغنج فوق المنصة حاملة الميكروفون وهي تطلق جملتها المألوفة للاعبي أوراق اليانصيب بصوت شبه رجولي هجين :
” رباح رباح ولي ما رباح دابا يرباح ” .

وأنت تنصت إلى سي المجذوبي، رغم روح النكتة والمرح، تستشعر هدير قلق يمور في أحشائه، حين يتحدث عن الفساد والفاسدين، والغريب أن الأمل ما يزال يحذوه لينبعث ذات منعطف، يقول قد نشهده ربما أو تعيشه الأجيال القادمة، ويشهر كارط حمراء كبيرة في وجوههم، ويقصد كارط المحاسبة والعقاب، ويشبه وضعهم الحالي متهكما بالمتهمين المحكومين بالسراح المؤقت إلى حين …
هناك رؤوس فساد، سماهم وحوش جد جشعة، لدرجة أنك قد تهب لها المدينة بكاملها، لكنها لا تمل ولا تشبع، إنها ” لا تبقي ولا تذر ” من فصيلة ” ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ” .

الشرفة وجه العرائش المسالم أمام وحوش كاسرة، بمخالب فولاذية، وحوش لا تسلم ولا تصافح، لا تبتسم إلا لماما ، كأن صفحة وجهها منحوتة من حجر، وسحناتها مثقلة بالأرق والقلق حول أرقام ناقصة لم تسجل في بيانات الربح والخسارة.
ففي بيئة فاسدة يصبح الفساد قيمة من القيم المتداولة بشكل معتاد جدا في بورصة تدبير الشأن العام المحلي كما في باقي ربوع الوطن.
” لم يكن هذا الذي نراه اليوم من شيمنا وأخلاقنا، لأننا تربينا على حب الوطن وحب الإنسان والتغذية الفكرية والثقافية للإنسان، وأفنينا العمر كله كأساتذة ومناضلين، في الدفاع عن المبادئ الإنسانية السامية، ولم نمض في طريق المال، رغم أن هناك، من ذهب، وهم كثر للأسف، في هذا الاتجاه.
لا أحد يذكر الٱن جبابرة المال والسلطة خلال المرحلة السوداء بغير سوء، الناس لا تذكر سوى من انتصر للإنسان وأراد أن يبني الإنسان؛ فالإنسان هو المفتاح الأساس وبعده كل الأشياء العظيمة تأتي لوحدها ” .
الٱن سي المجذوبي لا يرغب في أي شيء سوى التفاتة إعتراف بسيطة، ونحن نشاطره حلمه هذا طبعا، أن يشهد فيما تبقى من عمره عرائش عشقها حتى النخاع. إنه حلم لا يفارقه لحظة في أن تستعيد بعضا مما ارتوى به من عيونها وأطربه من موسيقاها وخلبه من جمالها ومفاتنها في الماضي على الأقل، وكأني به يريد أن يطلق ٱخر صرخة من ديوانه البعيد :

– دعوني أعانق ما تبقى من ذكريات الشرفة
وأتسلى بأطياف الصور ،
يا عرائش المدى،
أنت الباب الخلفي من طعنات الروح،
أنت الهاجرني
الٱن يهجرني المكان
أنت البعيد
بعدت عن الكرمة الطرية
ها هنا تهجرني أسمائي
يهجرني البحر والأصدقاء
يهجرني الطير والبحر وعصفورة التل *

* عصفورة التل : ليكسوس الأثرية


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.