العرائش نيوز:
-جمال الكتابي
مقدمة؛
في مثل هذا اليوم، 30 أبريل 1975، قبل نصف قرن، توقف التاريخ هنا قليلا ليسجل على مهل وبحروف من ذهب أعظم لحظة عرفها التاريخ الحديث: سقوط سايغون وانتهاء الحرب الأمريكية الفيتنامية، التي دامت ما يقرب 20 سنة، وذهب ضحيتها أكثر من 3 ملايين فيتنامي و 59 ألف جندي أمريكي دون احتساب الجرحى ومجهولي المصير. شكلت سايغون الوكر والحصن الأخير للاستعمار الامريكي (والفرنسي) في جنوب شرق أسيا.
حكاية الدبابتين:
مع العاشرة صباحا من هذا التاريخ اقتحمت الدبابة رقم 390 القصر الرئاسي من بابه الرئيسي في الجهة الجنوبية، بينما اقتحمت الدبابة رقم 843 الباب الجانبي من الجهة الشمالية. كان طاقم كل دبابة يتكون من أربعة مقاتلين (السائق، قائد الدبابة، اثنين مكلفين بالمدفع والرشاش). الدبابة 390 كان يقودها اليوتنان ‘توان’. أما الدبابة 843 كان يقودها الراحل اليوتنان ‘ ثان’. هذا الأخير كان في نفس الوقت قائد (الآمر) الفوج الرابع من اللواء 203 دبابات والذي اسندت إليه (الفوج) مهمة اقتحام القصر الرآسي. الدبابة 390 من صنع صيني والاخرى 843 من صنع سوفياتي. الدبابتان كانتا فخر الصناعة العسكرية السوفياتية والصينية.
في لقاء مع أحد هؤلاء الأبطال الثمانية، قائد دبابة 390، بهانوي، وهو يتحدث عن لحظة اقترابهم من الباب الخارجي للقصر الرئاسي في رحلة دامت سنوات من هانوي إلى سايغون :” عندما اقتربنا من الباب الرئيسي توقف السائق الشرجان ‘تاب’ قليلا ليسألني إن كان علينا أن ندق الباب للدخول، إعطي النار وازطم على الموطور،أجبته…تطاير الباب على أطراف القصر واستقرت الدبابة في وسط ميدان القصر مع إثبات الراية على الأرض.. زميلي الراحل قائدنا ‘ثان’ كان قد صعد إلى شرفة القصر لإثبات راية الجبهة الوطنية. وكان بذلك أول فيتنامي يرفع راية الثورة على القصر (يوجد على يمين الصورة لأربعة جنود، أسفله). كانت حكومة الجنوب حينها تراقب المشهد من قاعة الاجتماعات بقيادة الرئيس المؤقت الجنيرال “مينه” (القاعة في الصورة). هذا الاخير رحب بقادة الثوار ووعدهم بتسليم السلطة. أجابه المتكلم باسم الثوار “ليس لديكم سلطة حتى تسلمونها..جهز حالك لإعلان الاستسلام عبر الأثير بعد قليل..” هذا ما كان. مع الساعة 12 بعد الزوال أعلن المسؤول الحكومي استسلام حكومة فيتنام الجنوبية وجيشها وشرطتها إلى الثوار…انتهت الحرب وانتقلت فيتنام إلى عهد جديد .”. وفي نفس القاعة عقد اجتماع الوحدة بين الجنوب والشمال في نوفمبر 1975 حيث ولدت فيتنام الموحدة بقيادة هوشي منه (الغاب الحاضر، الذي رحل سنة 68).
رجال السلطة والمخابرات وحاشية الرئيس السابق هربوا في جنح الظلام عبر البواخر والطائرات العمودية وبعضهم مات من شدة الخوف والبعض الآخر انتحر رميا بنفسه من أعالي المباني. هناك من هرب بدون نعال جهة كامبودج…كانت بحق يوم القيامة حسب ‘توان’.
يضيف توان:” وصلت قافلتنا إلى جسر سايغون مع الخامسة والنصف صباحا، حينها قرر قائد العمليات الكولونيل (..) بمحاصرة سايغون من أربعة جهات. كانت مهمتنا مهاجمة القصر. المدة التي تفصل القنطرة والقصر تقل عن 12 كلم، لكن استغرقتا أربع ساعات للوصول الى القصر، وذلك بسبب القصف الكثيف من الجو والبحر والانهار من طرف العدو، وهو يعلم أنه يخوض معركته الأخيرة، ولم يفلح رغم آلاف القتلى في صفوف جيش الثوار، حسب توان.
وفي طريقنا إلى القصر انقطع الاتصال مع غرفة القيادة ونحن لا نعرف مكان القصر، وهو يضحك، لكن بعد لحظة مرت بجوارنا امرأة على دراجة نارية، سألناها عن موقع القصر، رفضت في البداية، لكنها وافقت بعد التهديد وإطلاقنا ستة عشر طلقة نارية في الهواء.
القصر بنته فرنسا نهاية القرن 19 وهو من طراز عالي جدا: لا من حيث التصميم الهندسي الراقي والحديث ولا من حيث المواد المستعملة في بناءه، سلمته إلى ما سمي بحكومة جنوب فيتنام بعد خروجها (فرنسا) من الهند الصينة ابتداء من سنة 1954 بعد انهزامها في ملحمة ديان بيان فو شمال فيتنام. هذا القصر كان وكرا للاستخبارات والدسائس وغرفة عملية لعدة جبهات. هنا قضى أوفقير أزهى أيامه في الهند الصينة وكاد أن يتزوج ابنة الامبراطور ‘باو داي’ حسب فاطمة أفقير في روايتها (حدائق الملك). انظر مقالي الأخير حول أوفقير.
الفريق الأسطوري والحساسية الصينية السوفياتية:
انتهت الحرب الأمريكية(كما يسمونها الفيتناميون) لكن هذه المرة لم تتجه الأنظار إلى القائد العام جنيرال جياب كما حدث سنة 1954 أثناء ملحمة ديان بيان فو، بل اتجهت الأنظار كلها إلى الدبابتين وطاقمها الثمانية الذين أطلق عليهم ” الطاقم الاسطوري”. كل الإعلام والاهتمام كان موجها صوب هؤلاء الأبطال وإلى يومنا هذا. مئات المقالات والصور والاصدارات حول الدبابتين وطاقمها.
هذا الاهتمام والجدال بين السياسيين والاعلامين أفضى إلى سؤال آخر حتى لا أقول أعمق، ربما ليس بريئا، بالنظر إلى الحساسية الموجودة بين الصين والسوفيات، وهو: “من هي الدبابة الاولى التي دخلت من باب القصر”. تقنية الفار لم تكن موجودة حينها طبعا. في هذه النازلة يقول توان “حينها لم نهتم بالموضوع، قلنا أن الدبابة رقم 843 (سوفياتية الصنع) كان لها السبق، على اعتبار أن زميلنا الراحل ‘ثان’ كان الأول من صعد القصر ورفع الراية فوقه، لكن بعد عشرين سنة (1995) سيتأكد العكس وأن السبق كان حليف لنا وحليف الدبابة رقم 390 (صنع صيني). الأمر حسمته القناصة الحربية الفرنسية ‘فرانسواز ديمولدر’ التي صورت المشهد من الداخل بعد اقتحام القصر. المصورة سلمت ألبوم الصور إلى هانوي سنة 1995. فرانسواز كانت واحدة من أشهر المصورات في نهاية القرن العشرين، حيث عملت في وكالات صحفية فرنسية ودولية كبرى. بدأت بتغطية حرب فيتنام وسقوط سايغون، ثم انتقلت إلى مناطق الأزمات الأخرى. لقد غطت حرب الخليج الأولى في عام 1991 والحرب الإسرائيلية الفلسطينية. صورتها المذهلة من مخيم للاجئين في بيروت يناير 1976 جعلتها أول امرأة حائزة على جائزة “الصحافة العالمية” في عام 1977. رحلت في باريس سبتمبر 2008.
خلاصة الكلام:
عندما شاهدت الدبابتين في مدخل القصر، المتحف حاليا، بسايغون، قلت ربما أنها مجرد استعراض لسلاح شارك في حرب التحرير. لكن حين زرت لاحقا المعرض العسكري في هانوي حيث توجد النسخة الاصلية للدبابتين فهمت الرمزية الخاصة للآليتين، حيث صادفت هناك أحد أبطال هذه الملحة وهو قائد الدبابة 390. استدعي هناك من أجل تأطير ورشة لطلبة الثانوي. سيوضح لي التفاصيل التي ذكرتها أعلاه.
إنها حفظ الذاكرة في أجمل صورها.