في اللغة السينمائية ماذا عن المادة وعن الجسد

العرائش نيوز:

محمد الشريف الطريبق

للصورة السينمائية، بعكس الصورة الروائية والشعرية، وجود مادي، ولا يمكن تحليلها دون العودة إلى مسار صناعتها الذي تتداخل فيها مجموعة من المجالات الفنية والتكنولوجية، وتتبلور من خلال تعاون مجموعة المتدخلين. فيكفي مثلا أن نفترض نفس العمل يتم إخراجه بنفس الطريقة ولكن بتغيير مدير التصوير فقط، أكيد أن النتيجة ستكون مختلفة. وحتى في حالة انسحاب مدير تصوير وتعويضه بآخر، فإن مدير التصوير الجديد سيكون مضطرا للعمل وفق اختيارات مدير التصوير الأول لضمان الهوية البصرية للفيلم. 
ورغم أن هذه التجربة ربما مستحيلة، ولا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، حيث أن المدير التصوير شريك أساسي في صناعة الفيلم وخلق أجوائه وترجمة رغبات المخرج أو صوره الذهنية إلى صور، وليس مجرد تقني يمكن تغييره بالآخر إلا في حالات نادرة. 
والسؤال هو: هل سيكون الفيلم نفسه إذا غيرنا ديكوراته بأخرى، أكيد أن النتيجة ستكون مختلفة. إن الفيلم لا يوجد كتنفيذ حرفي لنص سيناريو ما، ولكنه يوجد عبر مجموعة من المراحل ومن الأفعال والعلاقات الإنسانية يكون فعل التصوير (بالمعنى الحرفي) هو المحدد الوجودي، والمراحل التي تسبقه (كتابة السيناريو، البحث عن التمويل، تهييئ التصوير) محددة له، وتغيير عنصر ما يؤثر على الكل أي الفيلم، كل بنسبة معينة، وبالتالي لا يمكن حصر اللغة السينمائية فيما يصطلح عليه كذلك، إنه أشمل، وأرحب..

في غالب الأحيان، عندما نتحدث عن الرؤية الإخراجية نتحدث في الحقيقة عن إحساس عام بالفيلم بقراءة انطباعية تستعيد في أقصاها أدوات النقد والتحليل الادبي، أو تقتصر على المشترك بين السينما والأدب، أي المسرح في شقه المتعلق بالنص والرواية، أي بمعنى آخر الدراماتورجيا والسرد. غالبا ما يتم الحديث عن السينما بنهج الطرق المختصرة والاكتفاء بالعموميات الصالحة لكل مكان وكل زمان، وذلك بالاقتصار على الموضوع والتوقف فقط على مسار الشخصيات أو إعادة الحكاية بمحاولة استخراج معانيها. تنتقل هذه القراءة مباشرة إلى التأويل، دون التوقف عند المادة أو المواد الخام والجسد والمكان وتكتفي بتمثلها الذهني. وحينما تتوقف على لحظة معينة في فيلم وتتحمس لها تكون هذه اللحظة قد قاربت الكتابة الشعرية من خلال الانزياح عن اليومي أو التكثيف وبالإحساس الذي تخلقه عند المتفرج.
ربما لهذا السبب تقل الكتابات حول الفيلم الوثائقي، لأنه في الأصل جنس سينمائي بامتياز، وتوجد كتابته في شبه قطيعة مع الكتابة الأدبية.
أكيد أن العمل السينمائي لا يمكن أن يقارب بنفس الشكل، ونفس أدوات آليات مقاربة اشكال إبداعية أخرى وخصوصا الأدب. فمن المستحيل أن تصف مشهدا سينمائيا بالكلمات كما هو الشأن بالنسبة لسمفونية مثلا. فلقطة الفيلم خارج الزمن والمدة الزمنية التي تستغرقها تفقد الكثير من ماهيتها، فاللقطة لا توجد خارج سيرورة الزمن. لذا فترجمتها بالكلمات تصبح عملية صعبة تفقدها جزءا مهما من مكوناتها.
مقاربة السينما في نظري تنطلق من داخل السينما ومن داخل الفيلم ذاته. إذ داخل الحمض النووي لكل فيلم هناك في مكان ما خارطته الجينية ومفاتيح لقراءته وإعادة بنا مسار بناءه المادي والمعنوي.
تتمظهر الرؤية الاخراجية كموقف من الواقع (الذي هو ليس واقعا موضوعيا باعتبار أنه تم تحويره وإدارته أي إخضاعه للميزونسين حتى تلتقطه الكاميرا، وبهذا يتحول إلى لغة في حد ذاته) واللغة كما هي مجموعة من المسافات في المكان (سلم اللقطات) والزمن (التركيب/ المونتاج). فمن خلال ملاحظاتي يتم في غالب الاحيان إعادة صياغة معنى الفيلم بناءً على منطوق الشخصيات فقط، وليس من خلال تفكيك وتحليل التفاعل الكيميائي لكل المواد الخام التي انصهرت في الفيلم بفعل اللغة السينمائية. الكتابة عن السينما تتوقف عند معنى عمل سينمائي معين من خلال فقط التوقف على الصورة كاستعارة أو مجاز أو كمحسن جمالي أو وعاء للحكاية وللمواقف الدرامية وليس لذاتها، لأن الصورة السينمائية بعكس الصورة الروائية والشعرية لها وجود مادي أولا، ولا يمكن تحليلها بدون العودة على مسار صناعتها الذي تتداخل فيها مجموعة من المجالات الفنية والتكنولوجية، وتتبلور من خلال تعاون مجموعة المتدخلين. فيكفي مثلا أن نفترض نفس العمل يتم إخراجه بنفس الطريقة ولكن بتغيير مدير التصوير فقط، أكيد أن النتيجة ستكون مختلفة. حتى في حالة انسحاب مدير تصوير وتعويضه بآخر فإن مدير التصوير الجديد سيكون مضطرا للعمل وفق اختيارات مدير التصوير الأول لضمان الهوية البصرية للفيلم. رغم أن هذه التجربة ربما مستحيلة ولا يمكن ان تتحقق على أرض حيث أن المدير التصوير شريك أساسي في صناعة الفيلم وخلق أجواءه وترجمة رغبات المخرج أو صوره الذهنية إلى صور، وليس تقني يمكن تغييره بالآخر إلا في حالات نادرة. هل سيكون الفيلم نفسه إذا غيرنا ديكوراته بأخرى، أكيد أن النتيجة ستكون مختلفة. إن الفيلم لا يوجد كتنفيذ حرفي لنص سيناريو ما، ولكنه يوجد عبر مجموعة من المراحل ومن الأفعال والعلاقات الانسانية يكون فعل التصوير (بالمعنى الحرفي) هو المحدد الوجودي، والمراحل التي تسبقه (كتابة السيناريو، البحث عن التمويل، تهييئ التصوير) محددة له، وتغيير عنصر ما يؤثر على الكل أي الفيلم، كل بنسبة معينة وبالتالي لا يمكن حصر اللغة السينمائية فيما يصطلح عليه كذلك، إنه أشمل، و أرحب.
الرؤية الإخراجية، والتي هي في نظري ليس لها وجود سابق على الفعل، أي فعل التصوير، حصيلة سيرة من النوايا، وأنا أفضل سيرة رغبات، وحصيلة مجموعة من الأفعال، الأفعال هنا كتحقيق لأفكار ما أو كأفعال عفوية لا تسبقها أفكار، مكتفية بذاتها، والتي تصبح محددة في تفاصيل الفيلم.
قبل الرؤية الإخراجية، هناك الرغبة في إنجاز معين، والرغبة في تقاسمه مع الجمهور ما عدا ذلك ما هو الا اكسسوارات. لا يمكن ان يوجد مشروع فيلم من خلال الرغبة في تناول قضية اجتماعية أو سياسية مثلا، انه يوجد كرغبة في العمل وكرغبة في تحقيق أجواء ما أو في أغلب الحالات لحكي بصيغة ما، تقاسم تجربة إنسانية وإحساس جمالي.
إنجاز عمل سينمائي لا يوجد كفعل منفصل عن الحياة، حياة المخرج وشركائه. إنه استعادة لكل العلاقات التي تربط الأخير بكل تفاصيل الحياة في بعدها المادي والذهني قبل وخلال الإنجاز. عندما نختار نوعا من الإضاءة لفيلم مثلا، فلا يتم ذلك أبدا وفق قواعد معينة، ولكن ككمياء تفاعل بين متطلبات السيناريو من حيث الأجواء البصرية التي يتضمنها وتأويل ذاتي لهذه الأجواء من طرف المخرج، انطلاقا من ذوق معين ناتج عن ذكريات شخصية، وعما علق بالذاكرة من أفلام.
إن الذوق الشخصي في نظري محدد في هذه الرؤية، فالمخرج عندما يقوم بعملية اختيار، أو مجموع اختيارات، لا يتم ذلك وفق نظرية أو منهجية علمية أو بشكل واع، ولكن من خلال اختيار يتحكم جزء منه في ذوق الأخير، الذوق نفسه الذي ينتج من داخل العمل أو من خارجه أي من ذكريات شخصية أو من الرغبة في استعادة لأجواء اعمال سينمائية أخرى، ولا تجد تبريرها الا في مراحل لاحقة من مسار العمل، حيث يشكل في نفس الان مسار تبلور الوعي بهذا الاختيار أو اختيارات. حيث تقوم توالي مراحل انجاز العمل بتحويل هذا الفعل العفوي إلى فعل واع. في حالات عديدة في السينمات العالمية يتم اختيار مخرج لإخراج مشروع موجود لدوقه لأجواء معينة. تتدخل التقنية في مرحلة لاحقة عندما يتعلق الامر بالتنفيذ، تنفيذ هذا الاختيار وترجمت هذا الذوق إلى صور واصوات.
الصورة ليست غطاء، أو حجاب شفاف يلف الأشياء ويحولها الى جمال أو يكون فقط وعاء لها، إنها أولا الفعل الذي بدونه لا يوجد الفيلم. الفيلم يوجد كسيناريو أولا ولا لكنه لا يمكن ان يوجد خارج فعل التصوير، قد يوجد الفيلم في غياب نص سيناريو سابق ولا يمكن أن يوجد خارج فعل التصوير. الصورة حصيلة لمجموعة من اختيارات لمواد (مواد تصنع منها الملابس والديكور والإكسسوار) توجد داخل العمل من حيث اللون ومن حيث درجة عكسها للإضاءة حسب نسيجها وحسب رمزيتها أو كونها تعبر عن حقبة زمنية معينة يتناولها الفيلم. تتحدد الصورة أيضا من اختيار الممثلين لا كقدرة تعبيرية وتجسيد شخصية متخيلة، ولكن أيضا أجساد بسحنة وكتل تتحرك بشكل معين داخل الفيلم، وفي الأخير المكان أولا كمعمار، ثم بكمية الإضاءة، وعمق المجال الذي يسمح به هذا المكان، والكيفية التي يتحول معها هذا المكان مع تحول الإضاءة وتغيرها مع مرور الوقت. هذه المواد تضاء وتعكسها الكاميرا وفق شروط تقنية معينة (باستعمال عدسات ومرشحات معينة وباختيار درجة فتحة الكاميرا وفي الأخير سرعة العرض). في هذا المسار الطويل في المكان والزمان تتبلور الرؤية الفنية من خلال أفعال يومية واعية بنسبة معينة وعفوية في غالبها.
ان صناعة فيلم والوقت الطويل الذي تأخذه تجعلك الى حد ما مبرمجا عليه، منغمسا كليا في اجواءه داخل وخارج أوقات العمل إلى درجة أن الحياة تصبح موجهة في اتجاه وحيد حيث لا نحتاج الى التفكير والعودة إلى النص لأخذ قرار ما، الشيء الذي يجعل تفاصيل من اليومي تتسرب إلى العمل بشكل تلقائي وتجعل الأخير يؤثر على الحياة الشخصية بشكل ما، هناك شهادات لمن وجدوا صعوبة للخروج من أجواء عمل ما والانتقال الى حياة عادية. هذه الأفعال، وهذا المسار يغيب في الكتابات التي تقارب السينما بنوع من الحيف، وكأن الأمر يتعلق بكتابة أدبية حيث يشكل فعل التحرير، هو الفعل الوحيدة التي يتبلور من خلالها العمل. إن الكتابة الأدبية توجد كفعل وحيد ولا تشكل حدثا أو هو حدث يتكرر نفسه عند كل الكتاب على اختلافهم يكون الكاتب، وحيدا في مواجهة الصفحة البيضاء. في المقابل الجزء الكبير من الكتابة السينمائية يتم خلال التصوير الذي هو حدث اجتماعي تتداخل فيه كما هو معلوم مجموعة من المكونات بشرية، مالية وطبيعية…
هناك فكرة بديهية تقول الفيلم تعاد كتابته خلال مرحلة المونتاج أو أن الكتابة الحقيقية تتم خلال نفس المرحلة، لكن هل سبق لأحد أن تناول في تحليليه أو قراءته لفيلم ما المونتاج بعيدا عن دوره كمنظم للحكي او ضبط إيقاعه، مع العلم انه مستحيل وجود كتابات تتوقف بالتحليل السينمائي تساءئل المونتاج وتستخرج معنى العمل أو على الأقل تصف الطريقة والأسلوب الذي ركب به الفيلم (إن وجد داخل الفيلم وفي حسابات المخرج). ما هي حدود السيناريو وحدود المونتاج في سرد الأحداث أي ان المشاهد تقدم لنا في ترتيب معين في الغالب ليس هو نفس الترتيب الذي كانت عليه في السيناريو هذا الترتيب يؤثر على المعنى والإحساس بتوالي المشاهد ويعطيها معنى مغايرا لما كانت عليه في السيناريو. ما هي اختيارات المونتاج من ناحية الانتقال من لقطة الى أخرى داخل نفس المشهد، ماذا يغير أن يربط الفيلم لقطة بأخرى باستعمال الرابط ام أن المخرج بصحبة المونتير يعتمدان على التعامل مع اللقطات كأجزاء منفصلة دون الايهام بوجود انتقال أو قطع أو غياب المونتاج داخل المشاهد، كيف يغير موقع مشهد من معناه الداخلي، ما هو حجم العمل على تركب الصوت، هل تم الاقتصار على شريط صوتي كوظيفة أولية ام انها تذهب ابعد من ذلك إلى وظيفة الربط والتعبير وفي خلق أجواء الفيلم ارتباطا كليا أو جزئيا بالصورة. هذه التفاصيل والاختيارات الصغيرة هي التي تبلور في النهاية ما يمكن ان نسميه بالرؤية الفنية للمخرج.
ونحن نشاهد الفيلم أعتقد اننا لا نستحضر في نفس الآن النظريات الأدبية ولا نحلل السرد. يوجد هناك حوار بيننا وبين صور الفيلم ومشاهده لا يتوقف. نخاطب الشخصيان نتمتع بأشياء نراه لأول مرة، منطقة من العالم نكتشفها او نعيد اكتشافها، مكان نعرفه عن ظهر قلب يقدمه الفيلم بصورة جديدة ، نتساءل ماذا سيقع ، نتساءل عن احتمالات المشهد الموالي، نتشوق إلى أشياء وضعها الفيلم في افق انتظارنا، نكره شخصية ونحب أخرى ونخاف عليها، نتذكر أفلام أخرى، تعيدنا احداث الفيلم إلى تفاصيل حياتنا ، في لحظات معينة نحس بالخجل و الفرح ونلتفت يمينا ويسارا لنتأكد هل الذي يجلس بجانبنا انتبه إلى ذلك، نحس بالملل في لحظة ونبدأ في السعال وتنتقل العدوى لكل القاعة وبعد لحظة يعود الصمت ، ننتبه إلى أنه هناك شخصية لم نراه مند مدة ونشتاق اليها ، نتفاجأ بالنهاية وعندما يعم السواد الشاشة نحس اما بالفرح أو بخيبة امل أو بفراغ هائل يذكرنا بعبثية الحياة أو إحساس بجدوى العيش و الامل في المستقبل …لماذا ما ان تطأ القدمان باب القاعة وعندما نلتقي أول شخص يسألنا عن رأينا عن الفيلم وهو غالبا سؤال استنكاري عن رأينا، تبدأ حكاية أخرى لا علاقة لها بالفيلم الذي شهدناه للتو، وكأننا نخجل من تلك الاحاسيس التي راودتنا اثناء العرض، وتبدا المقارنة مع اخر فيلم شهدناه وبالأفلام التي حصدت كل جوائز المهرجانات العالمية، والبحث عن النظريات التي سنستعملها لطي صفحة المتعة ليتحول الفيلم في وهلة إلى ذكرى بعيدة نستأنس بها لنتأكد مرة أخرى من قوة تلك النظريات أو من احكام مسبقة وعموميات لا تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات اللحظة التي عشناها وتخون حميمية اللحظة التي عشناها.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.