وقعة تامدة، الاسم الخفي لمعركة وادي المخازن. (مقاربة طوبونيمية)

العرائش نيوز: 
بقلم : عبد الحميد بريري

يدخل هذا العرض في صلب النقاش الدائر حول توطين الساحة التي وقعت فيها معركة وادي المخازن الكبرى في 4 من غشت 1578 والتي انتصرت فيها القوات المغربية المسلمة بقيادة عبد المالك السعدي وأخيه المنصور الذهبي على الجيش الصليبي بقيادة ملك البرتغال سبستيان، وذلك من خلال الاستعانة باسم “معركة تامدة” الذي لم تتداوله إلا القليل من المصادر التاريخية المعاصرة للحدث.
تعددت الأسماء المشار إليها في المصادر التاريخية المغربية والأجنبية عن واحدة من أشهر معارك التاريخ إقليميا وعالميا، فكانت أشهر أسمائها (معركة وادي المخازن)، (معركة الملوك الثلاثة)، (معركة القصر الكبير)، ثم (معركة تامدة)، كلها أسماء سميت بها هذه الواقعة لما تركته في نفوس من حضرها وتحدث عنها، وكان عددهم كثير من مناطق مختلفة من المغرب، ومن شعوب مختلفة لهم ثقافة ومنطلق خاص بهم، فمن الطبيعي أن تتعدد أسماؤها بتعدد زوايا رؤية هؤلاء للمعركة.


إن تسمية المعركة بواد المخازن يرجع أساسا إلى أهم مجرى مائي في المنطقة؛ فقد وقعت المعركة بقربه، وهو أحد أهم روافد اللوكوس، فكان منبعه وحوضه مجالا حيويا لسكان قبائل الهبط ذات التأثير الكبير في تاريخ المغرب : بني عروس، بني ومراس، سماتة، بني جرفط، آل سريف، بني يسف، الساحل، الخلط والطليق. وهؤلاء شكلوا جبهة داخلية قوية متماسكة لميدان المعركة وتوافقوا على مبايعة عبد المالك السعدي ومناصرته على ابن أخيه المتوكل، رغم بعض الشكوك التي كانت تحوم حول قبيلة آل سريف في بقاء ولائها للسلطان المخلوع، ولما لهذه القبائل من رصيد وثقافة جهادية راكموها في مواجهة الاحتلال البرتغالي منذ نزوله على أرضهم في النصف الثاني من القرن 15 الميلادي. والمكان كذلك؛ أشهر عند المغاربة من غيرهم لأنه موقع جغرافي يقع في طريق إستراتيجية وتاريخية كانت تربط الجنوب المغربي بالشمال. فلا شك أن تسمى المعركة بواد المخازن باعتبار ساكني مجاله إحدى المكونات الإثنية المؤثرة بالمغرب؛ والمستقرة أيضا في منطقة حساسة ذات مكونات طبيعية لها خاصيتها المعروفة.


كما سميت في المصادر والمراجع الأجنبية خاصة بمعركة القصر الكبير. فلماذا التصق اسمها هذا بهذه المدينة دون غيرها ؟ اعتبرت القصر الكبير خلال نهاية القرن 15 والقرن 16 أكبر مناوئ ومهدد للمصالح البرتغالية في الساحل الأطلسي الشمالي الذي كان يعتبر مجالا حيويا واستراتيجيا للبرتغاليين بحكم الجوار لبلادهم ونظرا لموقعه الإستراتيجي حيث اتخذتها الدولة المغربية والمجاهدين قاعدة عسكرية وجهادية؛ لطردهم من أصيلا وطنجة وقاعدة لوجستيكية لمساعدة العرائشيين وهم في الخط الأمامي للدفاع عن مدينتهم، وفي نفس الوقت مهاجمة الأساطيل الإيبيرية المبحرة بقربها. ولنا في أسرة العروسي مثال؛ للدور المقاوم والجهادي الذي قامت به هذه المدينة والمنطقة للوجود البرتغالي وتنشيط العملية الجهادية البحرية من العرائش، بمعية أسرة بنو راشد بشفشاون. وأعتبر أن الضربات التي تلقاها البرتغاليين في أصيلا من طرف المغاربة كانت عاملا أساسيا لإخلاء أصيلا من طرف البرتغاليين(لمعرفة دور الأسرة العروسية في جهاد البرتغاليين أنظر كتاب حوليات أصيلا لبرناردو رودريكس). ولهذا شكلت القصر الكبير هاجسا ومانعا أمام تحقيق مشروع البرتغاليين في المغرب. وعدم احتلال البرتغاليين للعرائش مع المراكز المغربية التي احتلوها إبان ذلك، كان خطأ استراتيجيا في نظر البرتغاليين أنفسهم (أنظر كتاب حوليات أصيلا)؛ حال دون السيطرة على المغرب برمته وعاصمته الروحية فاس خاصة؛ وبما أن العرائش كانت هدفا حربيا من المعركة، كان لابد من ضرب القصر الكبير والمقاومة بها، ودون ذلك يبقى احتلال العرائش دون جدوى (أنظر مقالنا الأهداف الحقيقية لمعركة وادي المخازن ، موقع أرشيف العرائش). فتسمية المعركة بالقصر الكبير يظهر بذلك ما يبرره فمن الطبيعي أن تحمل اسم المعركة؛ لما للقصر الكبير من مكانة اجتماعية ودينية بالنسبة للمغاربة وشعور عدائي إزاءها بالنسبة للبرتغاليين في تلك الفترة من جهة أخرى.


وسميت أيضا معركة الملوك الثلاثة الذين ماتوا في المعركة ، وبالأربعة الذين شاركوا فيها وهم عبد المالك السعدي السلطان الشرعي للمغرب المسنود شعبيا وخارجيا من طرف العثمانيين، والمطالب بالعرش محمد المتوكل المدعوم من البرتغال، وهو الأمر الذي جر عليه سخط الشعب المغربي وقلل من شعبيته مقابل شعبية عمه، وملك البرتغال دون سبستيان الذي كان متطرفا في تربيته يحمل مشروعا دينيا وثقافيا واقتصاديا؛ القضاء على الإسلام بالمغرب، ورفضه انضواء المغرب تحت نفوذ الإمبراطورية العثمانية، والرغبة في الاستفادة من إمكانيات المغرب الإستراتيجية والاقتصادية التي لا يتوفر عليها البرتغال الذي يعاني أزمة اقتصادية خانقة وقتها، كما أن المنصور السعدي الذي بويع له في ساحة القتال هو امتداد لسياسة أخيه التي كانت تخالف أطماع البرتغاليين في المغرب. كل هؤلاء كان لهم دور حاسم في المعركة التي أنهت حياة الثلاثة وصعد نجم الرابع بها فكان بذلك أعظم سلاطين الحقبة.

وهو حدث لم تسجل المصادر التاريخية أن وقع مثله (1)
كما سميت موقعة تامدة وهو اسم طوبونيمي محلي، حيث يحيل إلى المكان الذي وقعت فيه المعركة بالضبط وهو ما يدل عليه مصدر معاصر حيث أشار لاسم المعركة ب “تامدة” وأشير إلى ذلك في هامش له بالتحديد “تامدة بوادي المخازن”(2) ولا زال هذا الاسم متداولا بين السكان إلى اليوم. فالاسم أمازيغي الأصل ويعني البحيرة(3). حيث أن المكان تجتمع فيه المياه من صبيب واد المخازن ووادي وارور قبل التقائهما بوادي لوكوس، فيشكلان بذلك بحيرات وغدران من المياه تنتشر هنا وهناك فلا يصلان إلى نهر لوكوس إلا عبر خنادق وجداول؛ ولا تجف نسبيا من هذه البحيرات إلا في الصيف بسبب الجزر البحري وتبخر المياه بارتفاع درجات الحرارة . لقد شكلت هذه المستنقعات المائية عائقا في بعض الأحيان؛ أمام انسيابية المرور على الطريق المخزنية الرابطة بين فاس وطنجة مرورا بالقصر الكبير(4)، كلما اقتربت غربا دون التحول إلى الطريق الأخرى شرقا من بلاد الخلط والطليق حيث تمر السكة الحديدية اليوم . وحتى أن الذهاب إلى العرائش والغرب للقادم من الشمال على الطريق البري إلا من “مشرع النجمة” القريب من القصر بفعل إحاطة البحر بالعرائش من ثلاث جهات إلا الجنوب وكذلك القادم من الجهة الغربية فلا يمر إلا من هذا المشرع وقد كان هذا الأخير ممرا للجيش المغربي مع السلطان السعدي عبد المالك إلى ميدان المعركة. وقد أشار رحالة مراكشي في العصر الوسيط في كتابه الاستبصار إلى وجود بحيرة قرب تشمس عند وصفه لها وسماها “أمسنا”(5) قد يقصد بها السهل أو البسيط الخالي الخصيب. وهو الوصف الجغرافي “تامسنا” باللسان الأمازيغي، وتقديم التاء تدل على التأنيث، أما الألف فتدل على التعريف، وهو الفرق بين الكلمتين (أمسنا وتامسنا). وبالفعل فمكان وقوع المعركة له نفس المواصفات الجغرافية. فالمصادر التاريخية تشهد بسهليته وانبساطه وبخلو المكان من السكان، وهو ما تدل عليه إشارة وردت من نفس المصادر عن عملية توزيع السلطان المنصور السعدي للأراضي التي وقعت فيها المعركة على الخلط والطليق جزاء على جلادهم في القتال، ولا زال المصابحة يسكنون بقرب المكان ويحمل دوار اسمهم بأولاد مصباح ويصرحون أنفسهم أن لهم وثائق ترجع إلى تلك الحقبة تثبت ملكيتهم لهذه الأرض، وقد استفادت الزاوية الريسونية من نفس العطاء(6) كما تدل هذه الإشارة على أن السهل الذي وقعت فيه المعركة كان أرضا خلاء. ويقع المكان بالضبط ما بين واد المخازن وواد لوكوس وواد ورور، مما يجعله يتأثر بفيضانات النهر وروافده فتكون بحيرة عند المد، وعند الجزر تصبح بسيطا خصبا للزراعة بفعل الترسبات، ولازال سكان المكان يعتمدون على الزراعة كنشاط اقتصادي أساسي.
إن تسمية المعركة التي دونت في تاريخ المغرب والإسلام بمداد من ذهب ب “تامدة” له بكل تأكيد ما يبرره، ويتموقع المكان ترابيا حسب التقسيم الإداري للمملكة المغربية، في جماعة السواكن بإقليم العرائش، 27 كلم مشيا على الأقدام شرق مدينة العرائش، و23 كلم شمال مدينة القصر الكبير.
والله ولي التوفيق .

1_ وقعة وادي المخازن في تاريخ المغرب – الدكتور إبراهيم شحاته حسن أستاذ التاريخ الحديث ، الطبعة الأولى 1979 البيضاء ص : 184 ، 185 ، 186 ، 202 ، 203 ،204 ، ه205 ،214 ، 217 ،225 ، 231
2_ يقول في شأن ذلك أبو حامد محمد العربي الفاسي في كتابه مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن المطبعة الحجرية ص: 34 ” ولقد كان في أحد الجناحين (والده أبو المحاسن) وأظنه الميسرة من عساكر المسلمين في مقابلة النصارى دمرهم الله ومقاتلتهم في الغزوة العظمى التي كانت بتامدة من حوز القصر سنة ستة وثمانين وستمائة ” ويؤكد ذلك في ص :82 .
3_ الطوبونيميا بالغرب الإسلامي أو ضبط الأعلام الجغرافية تأليف محمد البركة ، عبدالمالك ناصري ، سعيد بنحمادة ، عبداللطيف الخمار ، رضوان غزال .أفريقيا الشرق 2012 ص : 104 .
Les tibus arabes de la vallée de lekkous 4 _ michaux Bellaire p:25 (من نسخة مطبوعة لدي)
_ اليوم تم إصلاح هذه الأراضي بتقنيات عديدة للقضاء والتقليل من هذه التجمعات المائية من طرف الدولة منذ فجر الإستقلال عبر إنشاء جسور وتحويل مجرى وادي المخازن ومنشآت أخرى خاصة بالطريق الجهوية الرابطة بين القصر الكبير وسيدي اليماني .
5_ فبعد وصفه لمدينة تشمس يقول” وبقربها (أي تشمس) بحيرة كبيرة تسمى أمسنا ، يصب فيها البحر 7 أعوام وتصب هي في البحر 7 أعوام ؛ وينقطع البحر عنها فتظهر فيها جزائر بينها غدران يتصيد فيها أنواع السمك ” كتاب الإستبصار في عجائب الأ مصار لكاتب مراكشي من كتاب القرن السادس الهجري (12م) نشر وتعليق د/ سعد زغلول عبدالحميد أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الأداب لجامعة الإسكندرية دار النشر المغربية الدارالبيضاء 1985 ص:140
6 _ مجلة المليحة العدد الأول سنة 1997 مقال :الوجه العسكري لمعركة وادي المخازن ذ/ حسن أملي كلية الآداب والعلوم الإنسانية المحمدية ص : 84 .
_ حقائق تاريخية عن زاوية تازروت وبعض صلحاء بني ريسون أحمد بن الامين الريسوني ونشره ونقحه وقدم له زين العابدين بن الغالي الريسوني سنة 1966 ص:19
_ الشرفاء وقيادة الحركة الجهادية في جبال الهبط خلال حكم الوطاسيين والسعديين 1471- 1578 م ذ/محمد عمراني ص:31 مداخلة خلال معرض و ندوة حول المقاومة في الشمال أحمد الريسوني نظمها ابن عزوز حكيم (ضمن مجموعات مداخلات مطبوعة)


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.