العرائش نيوز:
ذ.مروان بل
يشهد مناخ الاستثمار في المغرب تحوّلاً لافتاً بعد دخول الميثاق الجديد الخاص بالمقاولات الصغرى والمتوسطة حيّز التطبيق، وهو تحول لا يقتصر على توفير الدعم المالي، بل يضع إطاراً استراتيجياً موجهاً لجذب المستثمرين نحو المجالات الأكثر قدرة على خلق القيمة. ومع ارتفاع نسبة هذه المقاولات إلى نحو 94% من النسيج الإنتاجي الوطني، أصبح تمكينها من التمويل والحوافز شرطاً رئيسياً لتسريع النمو الجهوي ورفع تنافسية المجالات المحلية.
ويأتي هذا الميثاق ليقدّم منظومة دعم، تصل فيها المنح المباشرة إلى %30 من قيمة المشروع المؤهّل، موزعة بين خلق مناصب الشغل، والجهات الأقل نمواً، والأنشطة ذات الأولوية. غير أن القيمة الحقيقية لهذه المنظومة لا تكمن فقط في نسب التحفيز، بل في كونها تفتح أمام المستثمرين إطاراً عملياً لإطلاق مشاريع منتجة بسرعة أكبر، وبمخاطر أقل، خاصة في الأقاليم التي تشهد دينامية اقتصادية صاعدة مثل إقليم العرائش.
شروط الاستفادة: معايير دقيقة لضمان جدوى الاستثمار
يمنح الميثاق الاستثماري دعمه للمشاريع اعتمادا على معايير واضحة تهدف إلى توجيه الموارد نحو المبادرات القادرة فعلاً على خلق قيمة اقتصادية وتشغيل مستدام. ويشكّل احترام هذه الشروط الخطوة الأولى لضمان قبول المشروع ودخوله في مسار الحوافز.
أولاً – حجم الاستثمار:
يشترط أن يتراوح حجم المشروع بين 1 و50 مليون درهم، وهو نطاق يمنح المستثمرين مرونة كبيرة في تصميم مشاريع صغيرة أو متوسطة، دون الحاجة لرأس مال ضخم. هذا السقف يُراعي القدرة التمويلية لمعظم مقاولات الجهة ويجعل ولوج الاستثمار أكثر واقعية.
ثانياً – خلق مناصب الشغل:
يعتمد الميثاق معياراً جديداً يقوم على نسبة التشغيل إلى الاستثمار، إذ يجب أن يحقق المشروع معدل 1.5 منصب شغل عن كل مليون درهم مستثمر (وحد أدنى قدره منصبا واحدا في قطاع السياحة). هذا الشرط لا يهدف إلى زيادة التشغيل فقط، بل إلى تقييم كفاءة المشروع في تحويل رأس المال إلى قيمة اجتماعية.
ثالثاً – رقم المعاملات السنوي:
يستهدف الميثاق المقاولات التي يتراوح رقم معاملاتها بين 1 و200 مليون درهم، وهو ما يعكس رغبة الدولة في دعم المقاولات الفاعلة في السوق. أما المقاولات حديثة التأسيس، فتبقى مؤهلة شريطة احترام باقي الشروط، مما يشجع روح المبادرة والابتكار.
رابعاً – المساهمة الذاتية:
يُلزم المستثمر بتوفير نسبة لا تقل عن 10% من تمويل المشروع من موارده الخاصة، لضمان الجدية وتقليل المخاطر المرتبطة بالتمويل الخارجي. فكلما زادت مساهمة المستثمر، ارتفعت فرص قبول المشروع وسرعة تمويله.
/
خامساً – الانسجام مع القطاعات ذات الأولوية:
لا يستفيد إلا الاستثمار الذي يندرج ضمن القطاعات المنتجة المدرجة في الميثاق، مثل الفلاحة المستدامة، والصناعة التحويلية، والخدمات اللوجستيكية، والصناعات الإبداعية، والسياحة البيئية. هذا التوجّه يضمن تركيز الدعم على المجالات الأكثر قدرة على خلق الثروة في الأقاليم.
مما لا شك منه إذن أن الميثاق الجديد يعتبر فرصة استثنائية للمستثمرين، حيث يمنح دعماً مالياً مباشراً يمكن أن يصل إلى %30 من قيمة المشروع المؤهّل، موزعاً بين منحة التشغيل، والمنحة الإقليمية، ومنحة الأنشطة ذات الأولوية. ويتم صرف الدعم على مرحلتين: الأولى بعد إنجاز نصف المشروع، والثانية بعد اكتماله، ما يضمن استمرارية تنفيذ الالتزامات.
كما يخصص الميثاق دعماً خاصاً لخلق مناصب الشغل المستقرة، تُصرف بالكامل بناء على وثائق CNSS، مما يشجع المشاريع ذات الأثر الاجتماعي. ويستفيد المستثمر أيضاً من تبسيط كبير في الإجراءات الإدارية عبر المراكز الجهوية للاستثمار، ومن عروض تمويلية مدعومة وضمانات مقدمة عبر مؤسسة “تمويلكم”، مما يقلل من المخاطر المالية ويُمكّنه من إطلاق المشروع في وقت أقصر وبكلفة أقل.
الجهات الفاعلة الأساسية
تتضافر جهود عدة جهات لضمان تنفيذ الميثاق وجعل الدعم متاحاً للمقاولين بآليات ميسرة:
الأبناك كمؤسسات للتمويل: يلتزم القطاع البنكي بتسهيل منح القروض للمقاولات الصغيرة، عبر تقديم عروض تمويل ميسّرة وأسعار فائدة مدعومة وتنظيم فرق مصرفية متخصصة لهذه الفئة. وقد أكّد نائب رئيس جمعية بنوك المغرب ضرورة تخصيص فرق مصرفية مؤهلة لمواكبة هذه المقاولات، مع رقمنة المنتجات البنكية وتحسين نماذج التنقيط الداخلیة لاستيعاب احتياجاتها. كما عرفت الندوات المقدمة من المراكز الحهوية للاستثمار حضورا مكثفا للقطاع البنكي مؤكدة بذلك التزامها ومشاركتها الفعالة.
المراكز الجهوية للاستثمار (CRI): تقع على عاتق هذه المراكز دراسة ملفات المستثمرين والتأكد من استيفاء شروط الأهلية، فضلاً عن حساب قيمة المنح المستحقة لكل مشروع. وتقوم هذه المراكز بإعداد مسودات الاتفاقيات الاستثمارية والمصادقة عليها من قبل اللجنة الجهوية الموحدة للاستثمار قبل أن تتولى صرف المنح للمقاولين المستوفين لشروط الميثاق.
اللجنة الجهوية الموحدة للاستثمار: تتكوّن من ممثلين عن الإدارات العمومية والهيئات المهنية الجهوية، وتختص بإقرار منح الدعم للاتفاقيات الاستثمارية التي تعرضها مراكز الاستثمار الجهوية.
الوكالة الوطنية للمقاولات الصغيرة والمتوسطة (MarocPME): ترأس الوكالة برامج المواكبة التقنية والتدريب المصمّمة وفق مراحل نمو المقاولة. فهي توفر خدمات استشارية وتأهيلية لتعزيز قدرات المقاولات، حسب احتياجاتها (كمقاولات في نمو متسارع، أو تواجه صعوبات، أو تسعى للتصدير…).
الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS): يلعب دوراً محورياً في المصادقة على استيفاء المقاولة لمنحة الوظائف، إذ يجب أن تكون الوظائف الثابتة التي تبتغي المقاولة منحة شغل مقابلة لها مسجلة لدى CNSS (عقود تتجاوز 18 شهراً). يشرف الصندوق على التأكد من صحة عقود العمل المصرّح بها قبل صرف جزء من الدعم.
المديرية العامة للضرائب (DGI): تشارك بإصدار الشهادات الإدارية الضريبية للمقاولات الراغبة في الاستثمار، وذلك لإثبات الحالة الضريبية السليمة أثناء تقديم ملف الترخيص.
صندوق الضمان المركزي «تمويلكم» : توفّر مؤسسة “تمويلكم” ضمانات ائتمانية لتمويل المشاريع الصغرى، بينما تقدّم برامج ضمانات القروض الميسّرة حوافز إضافية للمقترضين.
تعمل هذه الجهات معاً على تبسيط الإجراءات (تسليم الوثائق الإدارية، آليات التنقيط الائتماني والقروض المضمونة) حتى يشمل الدعم جميع مراحل المشروع بدءاً من الإطلاق وحتى مرحلة التشغيل والاستقرار.
فرص الاستثمار في إقليم العرائش: أرضية خصبة لمشاريع واعدة:
يشهد إقليم العرائش، بما في ذلك مدنه الكبرى ومناطقه القروية، تحولاً اقتصادياً نوعياً جعله واحداً من أبرز الأقطاب الصاعدة في الشمال المغربي. فهو يجمع بين موقع استراتيجي على محور الرباط–طنجة، وبنيات تحتية متطورة، وموارد فلاحية وصناعية غنية، مما يجعل منه بيئة مناسبة لاستقبال مشاريع جديدة تستفيد بشكل مباشر من التحفيزات التي يتيحها الميثاق الاستثماري.
وفي قلب هذه الدينامية يبرز مشروع قطب اللوكوس الفلاحي والصناعي، الممتد على منطقتي زوادة والعوامرة، والذي يمثّل خطوة حاسمة نحو تعزيز سلاسل الإنتاج المحلية. فقد بلغت تكلفة تهيئته الأولية 457 مليون درهم، مع استثمارات مستقبلية تتجاوز 3.5 مليار درهم، وهدف لخلق ما يقارب 7500 منصب شغل. ويوفّر هذا القطب فضاءً حيوياً لاستقبال وحدات صناعية وغذائية حديثة، ويتيح فرصاً واسعة لمشاريع تحويل الخضر والفواكه وتعليب المنتجات الفلاحية وتوضيبها للتصدير عبر ميناء طنجة المتوسط.
وتُعزّز الإمكانات الفلاحية الضخمة لإقليم العرائش هذا التوجه، إذ يشكّل حوض اللوكوس واحداً من أهم الأحواض الزراعية في المغرب، بما يتيحه من فرص للاستثمار في الزراعات ذات القيمة العالية، سواء داخل البيوت البلاستيكية الحديثة أو عبر الزراعة العضوية التي تعرف طلباً متزايداً في الأسواق الوطنية والدولية. ويمكن دعم هذه المشاريع بصناعات تحويلية تضيف قيمة على المنتجات، كالتحويل الغذائي والتجفيف والتعليب.
أما المجال الصناعي، فقد بدأ بالفعل يستقطب استثمارات دولية، من بينها المشروع الجديد لشركة PROCUMAR الألمانية–السويسرية التي تبني مصنعاً لإنتاج الأحذية الجلدية من علامة Rieker باستثمار يبلغ 140 مليون درهم وطاقة تشغيل تصل إلى 400 منصب. ويعكس هذا المشروع الثقة المتزايدة التي تبديها الشركات العالمية تجاه مناخ الأعمال في إقليم العرائش، كما يبرهن على قدرة المنطقة على احتضان صناعات تحويلية ذات مردودية ومرونة تشغيلية.
ويمتد الزخم التنموي أيضاً إلى قطاع السياحة، الذي يمتلك في إقليم العرائش مؤهلات طبيعية وثقافية تجعل منه فضاءً مثالياً لاحتضان مشاريع سياحية مستدامة. فالغابات الكثيفة، وهدوء الوديان، وساحل الأطلسي الممتد، وموقع ليكسوس الأثري جميعها عناصر تفتح الباب أمام إنشاء وحدات إقامة بيئية تعتمد على البناء المستدام والطاقة المتجددة، أو مشاريع للسياحة القروية التي تمنح الزائر تجربة أصيلة ترتبط بالأرض والإنسان.
وإلى جانب هذا التنوع، يبرز مجال السياحة الجبلية كقطاع واعد لا يزال في بدايته داخل إقليم العرائش، خاصة في المناطق المرتفعة القريبة من غابات بودرقة وبوحمد، حيث المناظر الطبيعية البكر والمسارات الجبلية التي تستقطب عشاق المشي الجبلي والتخييم. ويمكن تطوير هذا التوجه عبر إنشاء مسارات مؤطرة لتسلق الجبال (hiking)، ونقاط مراقبة طبيعية، ومراكز صغيرة تقدم خدمات للزوار، إضافة إلى مشاريع إيواء جبلية بسيطة (Eco-Lodge) تستجيب لطلب متزايد لدى السياح الباحثين عن تجارب في قلب الطبيعة.
وإلى جانب القطاع السياحي، يبرز قطاع الخدمات اللوجستيكية كأحد أهم القطاعات القادرة على النمو، بالنظر إلى قرب إقليم العرائش من الطريق السيار ومن ميناء طنجة المتوسط، مما يجعله نقطة ارتكاز طبيعية لخدمات التخزين والتوزيع والتبريد، سواء للمنتجات الفلاحية أو الصناعية.
وبهذا التنوع في الفرص وتكاملها مع التحفيزات التي يقدمها الميثاق الاستثماري، يظهر إقليم العرائش كفضاء مثالي لإطلاق مشاريع مستدامة، ذات مردودية عالية وقدرة تشغيلية كبيرة، في لحظة تعرف فيها المنطقة دينامية اقتصادية غير مسبوقة.
نقاط القوة الاستراتيجية لإقليم العرائش:
يتميّز إقليم العرائش بموقع جغرافي يجعله اليوم واحداً من أكثر الأقاليم قدرة على جذب الاستثمارات في شمال المغرب، فهو يمتد على الساحل الأطلسي بين محورين اقتصاديين رئيسيين هما الرباط وطنجة، ما يمنحه وصولاً سريعاً إلى الأسواق الوطنية والدولية عبر شبكة طرق حديثة وميناء طنجة المتوسط الذي يشكّل بوابة رئيسية للتجارة البحرية. هذا الموقع الاستراتيجي يحوّل الإقليم إلى نقطة التقاء طبيعية بين الداخل والساحل، ويجعل منه قاعدة لوجستيكية واعدة أمام المستثمرين.
وتزداد جاذبية إقليم العرائش بفضل البنية التحتية التي عرفتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، سواء فيما يتعلق بالمناطق الصناعية المفتوحة في القصر الكبير أو المناطق الفلاحية ذات الطبيعة الخصبة، أو من خلال الشبكة الطرقية التي تعزز الربط بين الجماعات القروية والمراكز الحضرية. كما ساهم افتتاح الكلية متعددة التخصصات بالقصر الكبير سنة 2025 في تعزيز قدرات الإقليم على توفير الكفاءات العلمية والتقنية التي يحتاجها سوق الشغل.
وعلى المستوى الديموغرافي، يعتمد إقليم العرائش على قاعدة بشرية شابة تقارب نصف مليون نسمة، ما يشكل رصيداً أساسياً لأي مشروع صناعي أو فلاحي أو خدمي. وقد ساعدت البرامج الجهوية في توجيه جزء من هذا الرصيد نحو التكوين المهني والمبادرات المقاولاتية، مما أتاح للإقليم قدرة أكبر على استيعاب مشاريع جديدة متنوعة.
ولا يمكن إغفال البُعد الطبيعي الذي يمنح إقليم العرائش طابعاً خاصاً، إذ يجمع بين السهل الساحلي والوديان العميقة والغابات الكثيفة والمناطق المرتفعة القريبة من السلسلة الجبلية الغربية، مما يجعل منه مجالاً متنوعاً يفتح الباب أمام مشاريع مرتبطة بالسياحة الإيكولوجية والجبليّة. فهذه المؤهلات البيئية تمنح الإقليم بعداً إضافياً يميّزه عن باقي الأقاليم الساحلية، وتوفر فرصاً لمشاريع تجمع بين الطبيعة والترفيه والرياضة الجبلية بشكل مستدام.
أما على مستوى السياسات العمومية، فقد أصبح إقليم العرائش من بين الأقاليم التي تستفيد من دينامية حكومية متزايدة تهدف إلى تعزيز التنمية المجالية وتقليص الفوارق بين المناطق. وتعمل المبادرات الوطنية، مثل البرنامج المندمج للتنمية الترابية ومبادرة المراكز القروية الصاعدة، على تعزيز البنيات الأساسية وتوفير شروط أفضل لاحتضان مشاريع استثمارية جديدة.
وبفضل هذا التكامل بين الموقع، والبنية التحتية، والموارد البشرية، والمؤهلات الطبيعية، والدعم المؤسساتي، يبدو إقليم العرائش اليوم في موقع يسمح له بالتحول إلى وجهة استثمارية متقدمة، قادرة على استقطاب مشاريع متنوعة تمتد من الصناعة والفلاحة إلى الخدمات اللوجستيكية والسياحة البيئية والجبليّة.
يأتي الميثاق الاستثماري الجديد في لحظة تعرف فيها البلاد دينامية اقتصادية مهمة، ويضع بين أيدي المستثمرين إطاراً واضحاً وعملياً يخفف من تكاليف الاستثمار ويعزز من فرص النجاح، خاصة داخل الأقاليم الصاعدة مثل إقليم العرائش. ومع تزايد المشاريع القابلة للتنفيذ في الفلاحة والصناعة واللوجستيك والسياحة، تبدو المرحلة الحالية فرصة ذهبية لإطلاق مشاريع جديدة قادرة على خلق قيمة محلية وفرص شغل حقيقية.
