العرائش نيوز:
كشفت دراسة علمية دولية حديثة أن المياه الجوفية في الحوض الساحلي “الرمل” بمنطقة لوكوس جنوب مدينة العرائش، تشهد مستويات مقلقة من تلوث النترات المرتبط باستعمالات الأراضي الزراعية الكثيفة وتسربات المياه العادمة.
ونُشرت الدراسة في مجلة “ساينتيفيك ريبورتس” التابعة لمجموعة “نيتشر” العلمية، في أكتوبر 2025، حيث اعتمدت نتائجها على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي التفسيري في تحليل التلوث المنتشر الناتج عن ممارسات بشرية متراكمة على مدى سنوات في واحدة من أكثر المناطق الزراعية إنتاجا في البلاد
مورد مائي حيوي تحت ضغط تصاعدي
تشير نتائج البحث إلى أن تلوث المياه الجوفية بالنترات في المغرب لم يعد مرتبطا فقط بالعوامل الطبيعية أو الجيولوجية، بل صار يعكس نمطا جديدا من الضغوط البشرية المتفاقمة نتيجة الزراعة المكثفة، الري غير المنظم، والتوسع الحضري غير المراقب، وهو ما يجعل الحوض الساحلي الرمّل نموذجا مصغرا لمستقبل يمكن أن يمتد إلى أقاليم أخرى إذا لم يتم اتخاذ إجراءات وقائية واضحة.
وتُعد الفرشة المائية “الرمل” الواقعة في الجزء السفلي من حوض اللوكوس من أهم الخزانات الجوفية الحيوية في شمال غرب المغرب، نظرا لدورها المحوري في تزويد المنطقة بمياه الشرب والري، ما يجعلها ركيزة أساسية ضمن منظومة الأمن المائي المحلي ودعامة رئيسية للأنشطة الزراعية والاقتصادية بالجهة.
وتكشف الدراسة أن مستويات النترات وإن كانت لا تتجاوز الحد الأقصى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية (50 ملغ/ل)، فإن وجود قيم تتراوح بين 24 و31 ملغ/ل في مناطق معينة من الحوض يمثل مؤشرا مبكرا على تقدم التلوث نحو مستويات حرجة، خصوصا في المناطق التي تعرف دورات زراعية مكثفة واستخداما عاليا للأسمدة النيتروجينية.
ويؤكد الباحثون أن هذا الارتفاع “ليس ظاهرة عابرة”، بل هو جزء من تحول هيكلي عميق في النظم المائية الساحلية بالمغرب، حيث تتداخل الزراعة التجارية الموجهة للتصدير مع أنظمة ري تقليدية لا تراعي دينامية المياه الجوفية ولا تأخذ بعين الاعتبار مسارات تراكم الملوثات في باطن الأرض.
الدراسة قادها فريق بحثي مغربي ودولي من جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، والمركز الوطني للطاقة والعلوم والتقنيات النووية بالرباط، والمعهد العلمي بجامعة محمد الخامس بالرباط، إلى جانب الجامعة الأمريكية في الشارقة بالإمارات، وجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن بالرياض، وجامعة ميسيسيبي الأمريكية، وجامعة مولاي إسماعيل بمكناس.
خوارزميات تكشف وزن كل ملوث داخل النظام الجوفي
لجأ الفريق العلمي إلى منهجية غير مسبوقة على مستوى شمال إفريقيا، من خلال تطبيق نموذجين من التعلم العميق هما TabNet وMLP-ANN لقراءة أنماط التلوث الخفية، مع دمج المؤشرات الكيميائية مثل الموصلية الكهربائية EC، الكلوريد، المادة العضوية، ومؤشر وجود الكوليفورم البرازي Fecal Coliforms، إضافة إلى البيانات المستخرجة من صور الأقمار الصناعية مثل مؤشر الغطاء النباتي NDVI وأنماط استخدام الأراضي.
وتشير الخرائط التنبؤية التي انتجها النموذج العميق إلى أن مناطق الغطاء الغابوي والمجالات الطبيعية في شمال وغرب الحوض لا تزال قادرة على لعب دور “مناطق عازلة” تخفف من تغلغل النترات نحو الخزان الجوفي، في حين تظهر الجهات الوسطى والجنوبية الشرقية من الحوض، خاصة القريبة من الدواوير والمزارع المكثفة، كمناطق ساخنة تجمع مستويات مختلفة من التلوث الكيميائي والميكروبي في آن واحد، ما يفتح النقاش حول مدى قدرة السياسات العمومية الحالية في المغرب على مراقبة هذه التحولات بوسائل تكنولوجية مناسبة.
وتكتسب هذه الدراسة أهميتها من كونها أول بحث منشور في دورية دولية رفيعة المستوى يستخدم الذكاء الاصطناعي التفسيري في تحليل جودة المياه الجوفية في المغرب، وليس فقط التنبؤ العددي كما كان في الدراسات السابقة، ما يعني أن الباحثين لم يكتفوا بتوقع قيم النترات، بل تمكنوا من تحديد وزن كل متغير بيئي وتأثيره على بنية التلوث. فقد كشف التحليل باستخدام خوارزمية LASSO أن وجود الكوليفورم البرازي كان المؤشر الأقوى على انتشار النترات، بما يعادل 52 بالمائة من التأثير التفسيري، متقدما على الموصلية الكهربائية بنسبة 48 بالمائة، والمادة العضوية بنسبة 19 بالمائة، بينما جاء مؤشر الغطاء النباتي NDVI بنسبة 9 بالمائة، والكلوريد بنسبة ضعيفة لم تتجاوز 3 بالمائة، ما يدل على أن التلوث المختلط الناتج عن تداخل الصرف الصحي غير المعالج والمخلفات الزراعية يمثل الخطر المزدوج الأكبر على المياه الجوفية المغربية.
وتشير الدراسة إلى أن الاعتماد على الأقمار الصناعية لرصد التحولات في الغطاء الأرضي يوفر للمغرب فرصة لتجاوز القصور الميداني الناتج عن محدودية نقاط المراقبة الجوفية، خاصة وأن منطقة البحث شملت عشرين بئرا فقط كعينة تمثيلية، تم توزيعها ضمن شبكة جيومكانية دقيقة تم إعدادها بتنسيق مع وكالة الحوض المائي للوكوس، لكن الفريق البحثي يرى أن زيادة عدد نقاط القياس وتوسيع قاعدة البيانات يمكن أن يرفع دقة النماذج ويجعلها قادرة على التنبؤ الديناميكي في الزمن الحقيقي، خصوصا مع تزايد الضغط الزراعي الذي تشهده مناطق اللوكوس والغرب.
وتلفت الدراسة الانتباه إلى أن التحولات المناخية، وتغير نمط التساقطات، وتراجع الفترات الرطبة التي تسمح بإعادة تغذية المخزون الجوفي، كلها عوامل إضافية يمكن أن تعمّق من ظاهرة تراكم النترات والملوثات في المستقبل القريب، محذرة من أن اعتماد المغرب على المياه الجوفية لتعويض نقص المياه السطحية في فترات الجفاف قد يؤدي إلى “تعبئة مفرطة” للخزانات الساحلية دون مراقبة كيميائية دقيقة، وهو ما يمكن أن يُحوّل هذه الموارد إلى “مخازن ملوثة” على المدى المتوسط، يصعب استرجاعها إلى حالتها الأصلية حتى مع وقف مصادر التلوث.
منصة وطنية موحدة للبيانات المائية والفلاحية
وتقترح الدراسة، بلهجة علمية دقيقة، أن الانتقال من إدارة وردية تقوم على رد الفعل إلى إدارة استباقية تعتمد على الذكاء الاصطناعي التفسيري والخرائط الديناميكية يمكن أن يشكل نقطة تحول في سياسات الماء في المغرب، مشيرة إلى أن النماذج مثل TabNet لا تُظهر فقط درجة التلوث، بل تكشف أيضا لماذا يحدث التلوث وأين يجب التدخل أولا، وهو عنصر حاسم في توزيع الميزانيات العمومية وربطها بالأولويات الترابية.
لذلك يرى الباحثون أن ربط بيانات وزارة الفلاحة ووكالات الأحواض المائية والوكالات الحضرية ضمن منصة موحدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي يمكن أن يغير جذريا طريقة مراقبة المياه الجوفية والتدخل السريع عند تجاوز العتبات الحرجة.
وتختم الدراسة بالتأكيد على أن تجربة حوض “الرمل” يمكن أن تشكل نموذجا لبناء استراتيجية وطنية لمراقبة جودة المياه الجوفية في المغرب، خصوصا في المناطق الساحلية التي تشكل الحزام الفلاحي التصديري للبلاد، داعية إلى إطلاق مشاريع بحثية مماثلة في أحواض الغرب، سايس، الغطاس، ودرعة، مع إدماج بيانات الاستشعار عن بعد، والمراقبة الميدانية، والذكاء الاصطناعي، في مقاربة واحدة.
-لكم