الذكاء بين فترة اكتماله وبين تمديدها

العرائش نيوز:

بقلم: الدكتور حسن الطريبق

الذكاء بين فترة اكتماله وبين تمديدها:

اتضح علميا، أن فترة اكتمال الذكاء عند الكائنات البشرية ينتهي تبرعمها ما بين 18 و20 سنة، أي أن ما يبقى بعد انصرام هذه الفترة الزمنية يكون خارج تكون الذكاء، ويبقى ما بعده من مراحل زمنية خاضعا للتجربة ولاستنطاق ما يحصل فيها من وقائع وأحداث، وما يواجهه الإنسان من مشاكل ومتاعب ومواقف، وحالات واستحداثات وتقلبات ونتائج وتخيلات واستلهامات…إلخ.

بين التجربة والذكاء امتداد زمني ينفسح وينشعب ليأخذ شكلا آخر تتحول معه اهتداءات الكائنات البشرية إلى السير على طريقين شبيهين بالإنتقال من الطريق العادية إلى الطريق السيارة، معنويا، التي هي أكثر ضمانة في سلامة الحركة بها لهذه الكائنات، وأكثر مواءمة لمرحلة ما بعد اليفاعة وطراوة العود لاستقبال مرحلة ما بعد فتوة البراعم. بمعنى آخر، فإن دخول الكائنات المعنية بذلك من مرحلة انتهاء تكون الذكاء إلى مرحلة التجربة يجعلها تميل إلى تطبيق ما استفادت به من ذكائها في اجتياز تجاربها الخاصة، بمساءلة واستنطاق ومقابلة تفضي جميعها إلى استقراء ما ترتب عن خبرة الذكاء واستنتاجات التجارب لأجل المزيد من اكتساب الخبرات من استعمالهما معا، لأنه بهما يتحقق لديه نفاذ الرؤيا والرؤية معا، كما استنتج ذلك خبراء الذكاء. فالرؤيا استلهام باطني مصدره التوقع، والحدس، وصدق الفراسة، أما الرؤية، فإنها المشاهدة المعنوية والمادية التي يحصل بها التمييز بين الأشياء من خلال التفحص والتفرس فيها للتيقن من معرفتها… وبذلك يتحقق اليقين في إدراك الماهية ومعرفة الحقيقة والنفاذ إلى العمق.

وقد يكون اهتداء البشر إلى اصطناع الإضاءة من استعمال السلكين: (السالب، والموجب في الكهرباء للوصول إلى تحقيق الإضاءة)، مساعدا لهم على سلوك السبيل نفسها في الإستناد إلى الذكاء والتجربة قصد الوصول إلى تحقيق إضاءة كامنة في داخل العقل البشري يستهدى بها في الرؤيا والرؤية معا. وبحسب ما يكون من تفاوت في النباهة وفي عكسها لدى هذا أو ذاك.

وبدهي أن هذه الإضاءة تتداخل في تخطيط رسمها البياني عوامل مختلفة فيها العبقرية، والكفاءة، والنوازع الخاصة، والقدرة على تفعيل حركة المرور وفق شروط موضوعية ومادية عبر الطريق السوية والثنائية الفسيحة التي سبقت الإشارة إليها. لأن الإنسان النابه يحمل أسرارا في ذاته كبيرة وشديدة العجب ينطبق عليها قول القائل:

يسكن العالم الرحيب بنفسي * فأرى أنجما بها وشموسا

فكأن انفساحها يتوالى * مده أو تعود فيه نفوسا

فيرن الصدى وقد صار عندي * -عبر ذاتي- المجلجل المهموسا

بين الملموس والمهموس مخافتان لا بد من اقتحام مستغلقاتهما بدوافع: الفضول، والحاجة، والبحث، والإستكشاف، في النطاق المتواضع عليه في حياة الناس من أحوال قد تشبه أحوال الطيور السارحة والبارحة. وإن المسافة بين السارح والبارح، هي شبيهة بالمسافة بين الشروق والغروب. فالملموس يحصل تقريه باللمس، أما المهموس فإنه ينصرف إلى انسياحات تهويمية يختلط في فضاءاتها التفاؤل والتشاؤم، بحسب أحوال النفوس، وبحسب ما درجت عليه سلوكات أصحابها. ويؤثر عن الشاعر العربي القديم قوله: (لكل امرئ عن دهره ما تعودا). وإن السلوكيات –في الدراسات الحديثة تربط التزام سلوك ما بالتعود عليه. ف(بافلوف) الروسي يقول: (إن الكلب المتعود على وقت مأكله لا يركز إلا على تحينه). أما (وطسون) الأمريكي فيقول: (إعطن إثنتي عشر طفلا، أصنع منهم ما أريد).

معنى هذا أن المدرسة في سلامة تدرجها، وفي استواء أدائها، وانتظام دروسها وتوجيهاتها وتربيتها، هي القادرة على خلق ذكاء مواز يمدد –معنويا- عمر الذكاء لا لكي يبقى صغير السن، بل ليصير مرتبطا بكل حياة الكائن البشري السليم التكوين.

نحن لا ننكر أن هناك تخلفات عقلية تحدث عند بعض الكائنات البشرية، بعضها ناشئ عن تأثير بعض الأمراض أو التأثيرات “الجينية الإرتدادية” أو انعكاس التخلفات البيئية والإجتماعية أو غيرها على البعض، مما يمثل حالات شاذة لا بد من حسبانها.

لكن ذلك لا يلغي، أبدا، كون الحالات السوية هي الأكثر حضورا وهي القادرة على بلورة الصورة الحقيقية التي يجب اعتبارها وإعداد شروط رعايتها لتكوين وحماية المجتمع في ذاته، وعقله، وجسمه، ووعيه.

كذلك لا يجب أن ننسى “ذكاء الفطرة” الذي يمثل “حالة خاصة” فيها اختراقات خاصة تكون خارج الترتيبات الذهنية، ومستندة إلى نفحات الألوهية، حيث يصير الإستحضار نقي الفوران ويقيني السعي والتسليم. ويكون، دائما، مشفوعا بتصوف عارم يخرج عن نطاق التصنيفات والترتيبات التي ذكرناها. وهو “يكون في ما كان”. وينبغي أن نشير إليه دون أن نعطي بشأنه حكما. وقد نصح الإمام الغزالي من يرومونه بهذه النصيحة:

فكان ما كان مما لست أذكره

                               فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.