التعليم عن بُعْد، أم بُعْدٌ عن التعليم؟

العرائش نيوز:
رَبَ ضَارَةٍ نافعة، مثل عربي شهير، يوضح أن العديد من المصائب قد تنطوي على منافع أو هناك من يحاول أن يحول المضرات إلى منافع، و نحن نعيش على إيقاع انتشار جائحة الكورونا19، التي تعتبر بحق مناسبة للوقوف أمام الذات و استخلاص الدروس و العبر، و في نفس الوقت إعادة ترتيب سلم الأولويات المجتمعية، و أهم مجال من المجالات التي تم تسليط الضوء عليها في هذه الفترة إضافة إلى قطاعي الصحة و الإقتصاد هو التعليم، بعدما استحال استكمال الموسم الدراسي حضوريا، و لجأت الوزارة إلى إقرار التعليم عن بعد في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فهل كان فعلا تعليما عن بعد، أم هو بعد عن التعليم؟ إذن ما هي خطوات إقرار التعليم عن بعد؟ و كيف تعاطى معه التلاميذ و الأباء؟ و هل صحيح أن الوزارة سعت لاستغلال الجائحة لترسيم هذا النوع من التعليم أم أن هذا النوع مقررا سلفا، و يبقى فقط زمن التفعيل الذي عجلت به الجائحة؟ و ما هو تقييمنا لهذه التجربة؟ هل نحجت أم فشلت؟ و إذا كانت قد مُنِيت بالفشل، فما هي مظاهر هذا الفشل؟
لا أعتقد أن هناك اليوم حاجة للتذكير بتاريخ التخطيط لإدخال و إدماج التكنولوجبا في التعليم التي تعود لثمانينيات القرن الماضي رغم أهمية ذلك، لكن تبقى أهم محطة سعت لتنزيل و ترجمة هذا الحلم هي إقرار برنامج “جيني” في 2006 حسب الذي كلف ما يناهز 100 مليار سنتيم من ميزانية الدولة، و كان الهدف منه هو تعميم تكنولوجيا الإتصال و المعلوميات على المؤسسات التعليمية بالمغرب، التي أرى ضرورة تقديم آخر الإحاصئيات بصددها حسب ما أوردته الوزارة سنة 2019 حتى تكتمل الصورة و هي:
ــ عدد المدارس الإبتدائية هو 7789 مدرسة، توجد 4762 منها بالعالم القروي، و تحتوي على 91 ألف حجرة دراسية، توجد 55 ألف منها بالعالم القروي.
ــ عدد التلاميذ بالسلك الإبتدائي هو 3.66 مليون تلميذة و تلميذ، يدرس 2.26 مليون منهم بالعالم القروي.
ــ عدد الثانويات الإعدادية بالمغرب 2007، توجد 872 منها بالعالم القروي.
ــ عدد التلاميذ الذين يتابعون دراستهم بالسلك الثانوي الإعدادي بلغ 1.56 مليون، و حوالي نصف مليون منهم بالعالم القروي.
ــ عدد الثانويات التأهيلية بالمغرب يبلغ 1236 ثانوية، توجد منها 360 بالعالم القروي.
ــ عدد تلاميذ الثانوي التأهيلي هو مليون تلميذة و تلميذ نصفهم بالعالم القروي.
طبعا عدد المؤسسات سنوات 2006 كان أقل مما هو عليه الآن و التي كان من المفروض ان تزود بتكنولوجيا الإتصال، باعتبار ذلك أرضية لما سيتم إقراره لاحقا بخصوص إدماج تقنية الإتصال بالمنظومة التعليمية، لكن بعد مرور أقل من ثلاث سنوات اتضح أن هناك بعض الهفوات خاصة تلك المرتبطة بالجانب الرقمي و التكنولوجي في تطبيق الميثاق الوطني للتربية و التكوين، الذي بدأ العمل به بدءا منذ مطلع القرن الحالي، ليتم اللجوء إلى وضع مخطط إستعجالي كان الغرض منه تدارك الهفوات، و خصصت له ميزانية سخية تقدر بحوالي 430 مليار سنتيم، و من بين ما سعى إليه هذا المخطط الممتد على ثلاث سنوات، هو توسيع وعاء التوزيع الخاص بالحواسيب في برنامج “جيني” وغيره. و بالموازاة مع ذلك قامت الوزارة بإصدار العديد من المذكرات ذات الصلة بإدماج التقنيات الحديثة في التعليم، الأولى رقم 959/90 بتاريخ 24 شتنبر 2009 بشأن تدبير قاعات “جيني”، و المذكرة 146 بتاريخ 13 أكتوبر 2009، و المذكرة رقم 19 بتاريخ 14 فبراير 2011، و المذكرة رقم 41 بتاريخ 28 مارس 2011 بشأن المبارة الوطنية للتحفيز على استعمال البريد الإلكتروني TAALIM.MA، و مذكرة تحمل رقم 66 بتاريخ 28 أبريل 2011، إضافة إلى برنامج ” تعميم تكنولوجيا المعلومات و الإتصال في التعليم 2006ـ2013″ بتاريخ 6 دجنبر 2011، و مذكرات عديدة لاحقا أصدرت في نفس الشأن، كلها تلح على ضرور إدماج تكنولوجيا المعلومات والإتصالات في المؤسسات التعليمية، لكن ما الذي تحقق من هذا المخطط الإستعجالي الذي كلف ملايير الدراهم؟
طبعا الإختلالات التي شابت هذا البرنامج جعلته يتوقف سنة 2011 أي عام قبل نهايته، و قد رصد المجلس الأعلى للحسابات من خلال تقريره العديد منها، و الذي أيضا قام بتسليط الضوء على وضعية التعليم، خاصة على مستوى البنية التحية التي كان من المفروض التهيء لها لإنزال برامج أخرى لاحقا ، و من بينها التعليم عن بعد، و إليكم بعض هذه الإختلالات:
ــ من أصل 1164 مؤسسة كانت مبرمجة ضمن أهداف المخطط الإستعجالي تم إنجاز 286 فقط.
ــ كان من المفروض توفير التعليم الأولي بنسبة 80% بالإبتدائي نهاية 2012 في أفق تعميمه 2015، لكن واقع الحال يقول أنه بحلول موسم 2016/2017 فقط 24% من المؤسسات الإبتدائية توفرت على التعليم الإبتدائي.
ــ 4376 مؤسسة تعليمية لا تتوفر على شبكة الصرف الصحي أي بنسبة 39.70% من عدد المؤسسات بالمغرب.
ــ 3192 مؤسسة غير مزودة بالماء الصالح للشرب أي بنسبة 28.96% من عدد المؤسسات بالمغرب.
ــ 681 مؤسسة غير مربوطة بشبكة الكهرباء أي بنسبة 6.17% من العدد الإجمالي للمؤسسات بالمغرب.
هذا في الوقت الذي تقول فيه منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسكو” أن حوالي مليون و 680 ألف طفل من أبناء المغاربة سيحرمون من المدرسة مع حلول سنة 2030، كما أن هناك الآن حوالي مليون و 53 ألف طفل تتراوح أعمارهم ما بين 5 سنوات و 17 سنة خارج المدرسة، أي محرومين من حقهم في التعليم.
و سيرا على ذات التوجه الذي سطرته الوزارة، فقد أكدت الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم (2015- 2030)، في الفقرة الرابعة من الدعامة 19 على ضرورة التعزيز التدريجي لصيغ التعليم الحضوري، بالتعليم عن بعد، عبر اعتماد برامج ووسائط رقمية وتفاعلية، وتكوين مكتبات وموارد تربوية إلكترونية. وأكدت الفقرة العاشرة أيضا من نفس الدعامة على تنويع أنماط التعليم والتكوين، خصوصا في المستويات العليا من التعليم (التعليم عن بعد، التعليم مدى الحياة)، بهدف إتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من الراغبين في تغيير مكتسباتهم أو تعميقها، أو التصديق عليها، بالحصول على شهادات مطابقة لخبراتهم. وتفعيلا لتوصية الرؤية الاستراتيجية للإصلاح، وتحويل مقتضياتها إلى قرارات كبرى ملزمة للجميع، تم إصدار قانون الإطار رقم 17ـ51 خاص بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، الذي دخل حيز التنفيذ في 19 غشت 2019، ليؤكد على نفس النهج في المادة 33، التي نصت إحدى فقراتها على تنمية وتطوير التعليم عن بعد، في حين أشارت المادة 48 من نفس القانون إلى ضرورة تمويل تعميم التعليم عن بعد، وجاء بيان وتفصيل طريقة تنزيل المادتين السالفتين في المشروع رقم 14، المضمن بالوثيقة الوزارية التي تحمل عنوان “حقيبة مشاريع تفعيل مضامين القانون الإطار رقم 17- 51″، الصادرة بتاريخ 20 فبراير 2020. وتزامنا مع إعلان حالة الطوارئ أصدرت الوزارة الوصية المذكرة رقم 20- 271، الخاصة باستعمال مسطحة “تيمز” للتعليم عن بعد، من أجل تفعيل خطة الإستمرارية البيداغوجية عبر إنشاء واستضافة الأقسام الافتراضية المسندة للأساتذة، ناهيك عن تفعيل مصطحة tilmid tice و إذاعة الدروس عبر القنوات التلفزية الأربعة، مما يؤكد بالملموس أن التفكير في التعليم عن بعد ليست فكرة وليدة الجائحة التي اجتاحت المغرب الآن. لكن العيب يكمن في عدم الإستعداد الجيد، و الكم الهائل من الأموال المهدورة طيلة 14 سنة على البدء في أجرأة الفكرة، و يكفي أن أشير إلى أن عدد الموارد الرقمية التي أنتجت طيلة 14 سنة على إحداث برنامج “جيني” لا يتجاوز 600 منتوج، مقابل الألاف التي أنتجت في ظرف أقل من شهرين.
لكن ما مدى تجاوب التلاميذ مع هذه الإجراءات؟ و ماهي نتائج تقييم هذه التجربة؟
لن أفصل أكثر في هذا الباب جوابا عن السؤال، رغم أهميته نظرا لأن التصريحات الصادرة عن الوزارة و العديد من المهتمين بالشأن التربوي كافية للتأكيد و الإقرار من داخل أهل البيت بالفشل الذريع لهذه العملية، طبعا أسباب هذا الفشل كامنة في الإحصائيات السابقة، و في التدابير العرجاء التي تم اعتمادها سابقا دون المحاسبة و المساءلة حول مسؤولية تبذير الأموال العمومية بهذا القطاع، لكن بودي فقط أن أشير إلى البحث الذي أجراه الخبير التربوي عبد الناصر ناجي، و الذي أوضح فيه أن عدد التلاميذ الذين يستعملون المنصة الرقمية “تلميذ تيس” لم يتجاوز 50 ألف زائر، أي ما يمثل أقل من 2% من تلاميذ الثانوي تأهيلي، و 5% من تلاميذ الثانية باكالوريا. بينما تشير الإحصائيات إلى تجاوب 15% من التلاميذ بكوريا الجنوبية و بولونيا، في حين تصل النسبة بالسعودية إلى 8%. و حسب نفس الدراسة فإن 80% من التلاميذ المغاربة يستعملون الهاتف الذكي، بينما في كوريا الجنوبية و بولونيا يستعملون الحواسيب، و سجلت أن عدد الساعات التي قضاها التلاميذ المغاربة أمام المنصة الرقمية لا يتجاوز 24 ألف ساعة، أي بمعدل لا يتعدى 9 ثواني لكل تلميذ، إضافة إلى اعتراف رسمي من قبل الوزير بكون المستفدين من التعليم عن بعد وصل 600 ألف تلميذ و هو ما يشكل تقريبا 7% من مجموع تلاميذ المغرب. إذن كل المؤشرات تدل على فشل تجربة التعليم عن بعد و هو ما جاء على لسان الوزير شخصيا بقائلا: أن التعليم عن بعد لا يمكن أن يعوض التعليم الحضوري. و زاد في التأكيد على ذلك من خلال الإقرار بإجراء امتحانات الباكالوريا الوطنية و الجهوية في المقرر المنجز حضوريا، أي لغاية 16 مارس 2020. فلماذا يا ترى فشل التعليم عن بعد؟
هناك مثل مغربي شعبي بليغ يقول “من الخَيْمَة خْرَجْ مَايل” في إشارة إلى أن السقوط كان متوقعا و محتوما مادام الخروج أو الإنطلاقة لم تكن جيدة، و هو ما ينطبق على حالنا الآن مع التعليم عن بعد، لأن فشله بالدرجة الأولى لا يرجع للحظة الراهنة بقدر ما أن هناك بدايات مؤسسة للفشل، و تكمن في جزء منها في ما سبق و أشرت إليه حول مآلات البرامج السابقة و الأموال المرصودة لها، و التي لم تذهب بالتأكيد إلى جهتها، أو على الأقل كلها. لذلك ساحاول هنا أن اركز بشكل مقتضب على مجموعة من الأسباب التي أدت و ستؤدي إلى هذا الفشل لو استمرت ــ ناهيك عن الإختلالات البنيوية التي عانى و يعاني منها التعليم و المرتبطة بسياسة الدولة أولا و أخيرا في هذا القطاع و التي يمكن العودة إليها في مقال لاحق ــ و هي:
ــ عدم الإستعداد و التهيء القبلي ( تكوين الأساتذة و التلاميذ على حد سواء للتعامل مع هذه التقنية).
ــ عدم توفر الإمكانات المادية و الوجيستيكية لدى العديد من التلاميذ خاصة بالعالم القروي الذين يشكلون تقريبا 50% من المجموع ( حواسيب، لوحات إلكترونية، هواتف ذكية، شبكات الأنترنيت..)
ــ ضعف صبيب الأنترنيت خاصة بالعالم القروي، هذا إن وجد أصلا.
ــ الفقر الذي يعانيه الأباء مما يجعلهم عاجزين على توفير التعبئة اللازمة من الأنترنيت، و التي زادها الحجر الصحي فاقة بعدما توقف مورد رزقهم.
ــ عدم توفر البيئة الدراسية الجيدة بالمنازل التي تتوفر على الأنترنيت، بما في ذلك توفير الهدوء والسكينة، وتجنب أفراد العائلة أثناء الحصة الدراسية، وضيق مساحة المنزل أيضا.
ــ التعامل غير الجدي مع التعليم عن بعد، و هو ماكشفت عنه العديد من الأوديوهات المنتشرة على مواقع التواصل الإجتماعي، ساخرة إما من التلاميذ أو الأساتذة خاصة بالسلك الإبتدائي، و هو ما جعل التعليم عن بعد يتحول إلى مادة دسمة للسخرية.
ناهيك عن الفوارق الإجتماعية التي تزداد ترسخا حاليا بين تلاميذ المغرب، نظرا لعدم قدرة الدولة و الوزارة على تعميم هذه التجربة و تنظيمها بتوفير جميع الإمكانيات اللازمة لها (حواسيب مجانية للتلاميذ خاصة المعوزين، توفير الأنترنيت بالمجان خاصة و أن شركات الإتصال أبانت عن جشعها بشكل غير منقطع أمام الوضع الإستثنائي الذي يعيشه المغاربة، بحيث لا تفكر سوى في مضاعفة أرباحها). لكن عوض القيام بكل هذا و ما يلزم لإنجاح التجربة، اعتبرت الوزار أن الفرصة سانحة للمرور إلى السرعة القصوى لفرض هذا النوع من التعليم على الأساتذة بالخصوص و ترسيمه، عبر إلزامهم بتعبئة استمارات يومية أشبه ما تكون بدفتر نصوص يسجل فيه الأستاذ(ة) النشاط اليومي الذي قام به مع تلاميذه، بل ذهبت الوزارة في بعض التصريحات إلى المطالبة بإجراء المراقبة المستمرة عبر هذه المنصات الرقمية قبل أن تتراجع عنها لحماقتها و استحالة إنجازها على أرض الواقع، و ذهب أحد المديرين النجباء إلى استفسار أساتذ لا يتجاوب و لا يتفاعل في نظره عبر مجموعة الواتساب مع ما يطلب منه، و هو مايذكرنا بالمثل الشعبي “سبق الغنم قبل العصا” مع العلم أن كل ما يقوم بها الأساتذة من تضحيات في هذه الفترة الحرجة، مدفوعٌ ثمنه من مالهم الخاص، و استثمار لمعداتهم الخاصة أيضا دون أن يتلقوا أي تعويض عن ذلك، كل هذا و ذاك جعلنا أبعد ما نكون عن التعليم و لسنا بصدد التعليم عن بعد. لذلك فالأسئلة التي تنتظرنا بعد انبلاج فجر الكورنا كبيرة و تحتاج منا الشجاعة و الجرأة اللازمتين لأقتحامها و محاولة إيجاد أجوبة عنها، قبل أن ينهار كل شيء.
و كل حجر و تلامذتنا بخير
ذ.شفيق العبودي


شاهد أيضا
تعليقات
تعليق 1
  1. جميلة يقول

    شكرا على موضوعك القيم كعادة كتاباتك دائما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.