العرائش نيوز:
حسام الكلاعي
الفصل الثاني: مراحل التدهور والتدمير 1985-2023
تشهد مدينة العرائش تدهورًا مستمرًا في تراثها المعماري الكولونيالي، حيث مرت بثلاث مراحل رئيسية، تعكس كل منها تحديات مختلفة في الحفاظ على هذا التراث الغني. فيما يلي تحليل لكل مرحلة.
2.1. مرحلة الإهمال 1985-2000
بعد استقلال المغرب، شهدت مدينة العرائش تراجعًا ملحوظًا في الاهتمام بتراثها المعماري، الذي كان يُنظر إليه على أنه جزء من الإرث الاستعماري، وليس كجزء من هوية المدينة التاريخية. خلال هذه المرحلة، عانت المباني الكولونيالية من الإهمال لعدة أسباب:
• ضعف سياسات الحفاظ على التراث:
منذ منتصف الثمانينيات وحتى أوائل الألفية الجديدة، عانت مدينة العرائش من ضعف واضح في السياسات الموجهة نحو الحفاظ على تراثها المعماري الكولونيالي، وهو ضعف يمكن إرجاعه إلى غياب إطار قانوني وتنظيمي واضح يعالج التراث العمراني كقيمة حضارية تستحق الحماية والتعزيز. حيث لم تكن هناك قوانين محلية أو وطنية كافية تعنى بحماية المباني ذات الطابع الكولونيالي، و لم تُدرج معظم هذه المباني ضمن قوائم الحماية الرسمية، مما جعلها خاضعة لقوانين البناء الحديثة التي غالبًا ما تفتقر إلى مراعاة طبيعة هذه المنشآت التاريخية. ونتيجة لذلك، كانت العديد من المباني التراثية تُعامل كأي مبانٍ عادية، ما أتاح المجال لهدمها أو تعديلها دون قيود.
هذا النقص التشريعي أتاح المجال لتعرض العديد من المعالم المميزة للتعديلات العشوائية والهدم التدريجي، ومن أبرز الأمثلة على ذلك مسرح إسبانيا و سينما إيديال و الكازينو الإسباني وأجزاء من حيEnsanche Colonial، اللذين لم يحظيا بأي حماية قانونية تذكر. كما أن السلطات المحلية ساهمت بدورها في تفاقم الوضع من خلال تعاملها مع المباني الكولونيالية كعبء حضري بدلاً من اعتبارها كنوزًا ثقافية وتاريخية. تركزت سياسات التنمية المحلية خلال هذه الفترة على تعزيز الاستثمار والتوسع العمراني دون النظر إلى الأبعاد الثقافية والاجتماعية لهذه المباني، مما أدى إلى بيع العديد منها لمستثمرين خاصين وتحويلها إلى مشاريع لا تتناسب مع طبيعتها الأصلية، بل أحيانًا إلى هدمها بالكامل لبناء عمارات حديثة تخلو من أي طابع جمالي أو تاريخي.
هذا النهج الذي اتخذته السلطات تجاه التراث الكولونيالي تسبب في خسارة لا تقتصر على المباني نفسها، بل تمتد لتشمل انقطاعًا في الذاكرة الجماعية للسكان المحليين، إذ كانت هذه المباني تشكل جزءًا من الهوية البصرية والثقافية للمدينة. يمكن القول إن ضعف السياسات لم يكن مجرد تقصير إداري بل انعكاسًا لنظرة ضيقة وقصيرة الأمد للتراث كجزء من الماضي القابل للتجاهل بدلاً من اعتباره موردًا ثقافيًا واقتصاديًا مستدامًا. هذه المرحلة من الإهمال شكلت بداية لمسار طويل من التدهور الذي ما زالت العرائش تدفع ثمنه حتى اليوم، داعية إلى ضرورة إعادة التفكير في قيمة التراث ودوره في صياغة هوية المدينة.
• غياب الوعي الثقافي:
أدى غياب الوعي الثقافي لدى كل من السكان والمسؤولين بأهمية التراث المعماري في مدينة العرائش إلى تفاقم الوضع بشكل كبير، حيث لم يكن هناك إدراك كافٍ لقيمة هذه المباني كجزء من الهوية التاريخية والثقافية للمدينة. عوضًا عن ذلك، ساد تصوّر خاطئ بين العديد من السكان والمسؤولين بأن المباني الكولونيالية مجرد بقايا استعمارية لا تحمل أي قيمة رمزية أو تاريخية تستحق الحفاظ عليها. هذا التصور ساهم بشكل مباشر في تهميش هذه المعالم وعدم الالتفات إليها، ما أدى إلى إهمالها وتعريضها لخطر التدهور والهدم التدريجي، مما جعل التراث المعماري للعرائش مهددًا بفقدان عناصره المميزة بشكل متسارع
• بيع أو تحويل المباني التراثية:
شهدت العديد من المنازل والمباني التاريخية في مدينة العرائش عمليات بيع وتحويل إلى استخدامات تجارية لا تتناسب مع طبيعتها الأصلية، مما أسهم في فقدان الهوية التاريخية لهذه المنشآت. فقد تم استغلال هذه المباني لأغراض تجارية بحتة دون مراعاة قيمتها التراثية أو مراعاة الطابع المعماري الفريد الذي كانت تحمله، حيث تعرضت بعض المباني للهدم الكامل لتحل محلها محال تجارية أو مستودعات ذات تصميمات حديثة تفتقر إلى الانسجام مع السياق العمراني التاريخي للمدينة، وهو ما أدى تدريجيًا إلى طمس المعالم الأصلية وفقدان جزء كبير من الهوية الثقافية التي كانت تميز العرائش
• نقص الموارد المالية:
أن نقص التمويل المخصص للحفاظ على التراث كان عقبة رئيسية أمام تنفيذ مشاريع الترميم. غالبًا ما كانت محاولات الحفاظ على المباني التراثية تقتصر على جهود فردية أو مبادرات محدودة، دون دعم مالي كافٍ من الدولة أو الجهات المانحة. هذا النقص في الموارد جعل من الصعب تنفيذ مشاريع ترميم فعالة ومستدامة.
• التحديات الإدارية والتنسيقية:
الخلل في التنسيق بين الجهات المحلية والوطنية كان عاملاً إضافيًا أثر سلبًا على جهود الحفاظ على التراث. المسؤولية عن حماية المباني التراثية غالبًا ما كانت تتوزع بين جهات متعددة دون وجود جهة واحدة تتحمل المسؤولية الكاملة، مما أدى إلى تضارب في القرارات وتأخير في تنفيذ المشاريع. إضافة إلى ذلك، لم تكن هناك رؤية موحدة لإعادة تأهيل المناطق التراثية بما يضمن الحفاظ على أصالتها.
• نقص الوعي المحلي:
يمثل نقص الوعي المحلي بأهمية التراث المعماري في مدينة العرائش أحد أبرز العوامل التي ساهمت في تدهور المباني الكولونيالية وفقدانها تدريجيًا. هذا النقص يظهر في مستويين رئيسيين: الأول يتمثل في عدم إدراك السكان للقيمة الثقافية والتاريخية لهذه المباني، والثاني يكمن في غياب برامج التثقيف العام التي تعزز فهم الأهمية الحضارية للتراث ودوره في تشكيل هوية المدينة.
• عدم وعي السكان بأهمية التراث:
لم يدرك غالبية سكان العرائش أن المباني الكولونيالية ليست مجرد هياكل قديمة تركها الاستعمار، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية المعمارية للمدينة. تاريخيًا، كانت هذه المباني شاهدة على فترة انتقالية هامة في تاريخ العرائش، حيث جمعت بين الأسلوب الأوروبي والتقاليد المغربية. ومع ذلك، نظر العديد من السكان إلى هذه المباني كأطلال استعمارية لا تحمل أي رمزية ثقافية أو اجتماعية، بل اعتُبرت عائقًا أمام التطوير العمراني.

هذا التصور السلبي أدى إلى قبول واسع لتحويل هذه المباني إلى استخدامات غير ملائمة، مثل تحويل المنازل التراثية إلى محال تجارية، أو حتى هدمها بالكامل لبناء منشآت حديثة. لم يكن هناك إدراك بأن الحفاظ على هذه المباني يمكن أن يكون استثمارًا طويل الأجل، سواء من خلال تعزيز السياحة الثقافية أو تحسين جودة الحياة للسكان المحليين.
2.2. مرحلة التوسع العمراني العشوائي (2000-2010)
مع بداية الألفية الجديدة، شهدت العرائش طفرة عمرانية كبيرة، ولكنها كانت غير منظمة، ما زاد من التعديات على المناطق التاريخية والتراثية:
• الطفرة العمرانية:
شهدت مدينة العرائش طفرة عمرانية كبيرة خلال فترة الألفية الجديدة، مدفوعة بالطلب المتزايد على السكن والبنية التحتية، حيث تم تنفيذ العديد من المشاريع الإسكانية والتجارية لتلبية هذا الطلب، ولكن ذلك كان على حساب المناطق التاريخية والمعالم الكولونيالية التي كانت جزءًا من هوية المدينة. فقد تعرضت العديد من المباني الكولونيالية للهدم الكامل لتحل محلها عمارات حديثة تفتقر إلى أي قيمة معمارية أو جمالية، مما أدى إلى تآكل الطابع العمراني التاريخي للمدينة واستبداله بمبانٍ لا تعكس تراث العرائش الثقافي أو هويتها التاريخية. هذه الطفرة العمرانية، رغم أنها هدفت إلى التنمية، إلا أنها جاءت على حساب الموروث الحضاري للمدينة.
• إنشاء مشاريع سكنية على حساب التراث:
o تم بناء تجمعات سكنية في أماكن كانت سابقًا مخصصة للأحياء الكولونيالية.
o اختفت بعض الشوارع الرئيسية ذات الطابع التراثي نتيجة لتوسعات الطرق وبناء المنشآت الجديدة.
• التجاهل الإداري:
o استمرت السلطات المحلية في تجاهل القوانين المتعلقة بحماية التراث.
o لم تُجرَ أي دراسات جدية لتقييم تأثير المشاريع الجديدة على الطابع المعماري للمدينة.
2.3. محاولات الحفاظ مقابل تزايد التدمير 2010-2023
على الرغم من زيادة الوعي بأهمية التراث في العقد الأخير، فإن الجهود المبذولة للحفاظ عليه لم تكن كافية للتصدي للتحديات المستمرة، حيث تزامنت محاولات الحماية مع استمرار التعديات والتدمير. تم إدراج بعض المباني ضمن برامج الحماية التراثية، مثل “البلكون الأطلنطي”، وصدرت قوانين جديدة تهدف إلى الحفاظ على المباني الكولونيالية، إلا أن هذه القوانين افتقرت إلى التنفيذ الفعّال على أرض الواقع. بقيت معظم البرامج والمبادرات حبرًا على ورق، واستمرت التعديات العمرانية دون رادع، وفشلت العديد من محاولات الترميم بسبب نقص التمويل وسوء التخطيط، مما أدى إلى إهمال المزيد من المعالم التاريخية.
في الوقت ذاته، تم تحويل العديد من المنازل التراثية إلى مقاهٍ ومطاعم دون الالتزام بالضوابط المعمارية التي تحافظ على طابعها التاريخي، بينما تضاعفت المشاريع التجارية التي لا تراعي السياق التاريخي للمدينة، مما أسهم في مزيد من التدهور للهوية البصرية والعمرانية. من جانب آخر، شهدت المباني تغييرات هيكلية كبيرة أثرت على أصالتها، حيث تم إدخال تعديلات غير مدروسة أضرت بالتصميمات الأصلية وأفقدتها قيمتها الثقافية.
ورغم هذه التحديات، ظل الضغط السكاني والاقتصادي عاملًا رئيسيًا في استمرار تدمير المباني التراثية، حيث أصبحت الحاجة إلى توسيع البنية التحتية وإنشاء المشاريع الجديدة تهيمن على أي اعتبار للحفاظ على التراث. ضعف التنسيق بين الجهات المحلية والوطنية زاد من تعقيد الوضع، مما جعل الحفاظ على التراث تحديًا مستمرًا يتطلب جهودًا أكثر تنظيمًا وإصرارًا من جميع الأطراف المعنية.


