الحكم الذاتي في الصحراء المغربية كرافعة تأسيسية للديمقراطية الحقة وللإنسية المغربية

العرائش نيوز:

المصطفى سكــــــــــم

  تعالج هذه الورقة التحول العميق الذي يشهده المغرب في ضوء اعتماد مجلس الأمن الدولي لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي وعملي لقضية الصحراء. لا تنظر الورقة إلى الحكم الذاتي كحل إداري أو دبلوماسي فحسب، بل كرافعة تأسيسية لإعادة بناء الدولة المغربية على أسس ديمقراطية، مجالية، ثقافية، ورمزية، في إطار ما يمكن تسميته بـ”الإنسية المغربية”. تنطلق الورقة من فرضية مركزية: أن النضال من أجل استكمال الوحدة الترابية، وتفعيل الحكم الذاتي، يُشكلان مدخلًا لإعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين القانون والهوية، وبين السيادة والتمثيلية.

  1ـ السياق التاريخي: من الأزمة السياسية إلى المسلسل الديمقراطي

عشية المسيرة الخضراء، كان المغرب يعيش ما يمكن تسميته بـالأزمة المركبة، أزمة النظام و أزمة القوى الديمقراطية اليسارية  وببلوكاج سياسي واضح، حيث تميزت المرحلة بانسداد آليات التداول، وتوتر شديد بين النظام السياسي والقوى اليسارية الديمقراطية، وسط هيمنة منطق القمع والرقابة. هذه المرحلة جسدت الانفصال التام للدولة عن العقل، حيث تحولت الدولة إلى جهاز سلطوي مغلق، غير قادر على التعبير عن الإرادة العامة الحقيقية أو إنتاج نسق سياسي متوافق عليه.

لكن السياق التاريخي وتفاعلات مصالح القوى المحيطة حول فكرة تخلي إسبانيا الفرانكوية عن الصحراء الغربية المغربية ، و أحقية المغرب في استرجاع صحرائه فرض على الدولة المغربية إعادة إنتاج شرعيتها عبر تعبئة وطنية شاملة بانفتاح على القوى الوطني الديمقراطية، مما دفع القوى الإصلاحية إلى الإقرار بشرعية الحكم، واختيار طريق النضال الديمقراطي مهما اختلفت تسمياته ،كأساس للتقدم. هذا التحول أفرز ما سُمي لاحقًا بـ”المسلسل الديمقراطي”، أو “الهامش الديمقراطي”، الذي بدأ يتوسع تدريجيًا، وفتح الباب أمام التناوب السياسي والاعتراف المتبادل بين النظام والمعارضة، في ما يشبه لحظة تأسيسية جديدة للدولة المغربية، حيث تحولت القضية الترابية إلى مدخل لإعادة بناء الثقةالمفقودة، وتوسيع المشاركة السياسية، وتحديث المؤسسات..مسار عرف عدة انعراجات ومنعطفات توج بحكومة سي عبد الرحمان اليوسفي.

2 ـ الحكم الذاتي: من المقترح السياسي إلى التأسيس الدستوري

مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب سنة 2007، والذي أصبح اليوم مرجعية أممية رسمية بعد القرار رقم 2797، يُجسد في عمقه السياسي تصورا متقدما للحرية السياسية، وفقًا لما طرحه سبينوزا وجون رولز: أن يكون الإنسان حرًا يعني أن يشارك في صياغة القوانين التي يخضع لها. الحكم الذاتي، بهذا المعنى، ليس مجرد توزيع إداري للسلطات، بل تأسيس لعلاقة جديدة بين المواطن والمجال، بين القانون والهوية.

غير أنه ومن منظور القانون الدستوري المقارن، يُظهر النموذج المغربي حاجة ملحة إلى تعديل دستوري شامل، يُكرّس الحكم الذاتي كصيغة مستقلة عن الجهوية الموسعة، ويمنح الجهات صلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية حقيقية. يمكن استلهام نماذج مثل:

النظام الفيدرالي الألماني: حيث تُوزع السلطات دستوريًا بين المركز والولايات، مع ضمانات للتمثيلية والخصوصية.

الحكم الذاتي الإسباني: حيث تمتلك كل جهة نظامًا سياسيًا خاصًا، ودستورًا جهويًا، يضمن التعدد داخل الوحدة.

النموذج الكندي: الذي يُعترف فيه بالخصوصيات الثقافية واللغوية، ويُكرّس الفيدرالية المرنة.

في المقابل، يظل الدستور المغربي الحالي غير قادر على استيعاب هذا التحول، مما يفرض تعديلًا يعيد تعريفالعلاقة بين المركز والجهات، ويكرّس مبدأ التعدد داخل الوحدة، ويُحوّل الحكم الذاتي من مقترح سياسي إلى مؤسسة دستورية.

3 ـ الديمقراطية المجالية والهوية الرمزية

إن الديمقراطية لا تبنى فقط عبر الانتخابات والمؤسسات، بل عبر وعي مجالي يدرك أن لكل جهة لهجتها أو لغتها، رموزها، طقوسها، وتاريخها. في هذا السياق، تصبح الديمقراطية اختيارا سياسيا صريحا و فعلا ثقافيا، يعيد الاعتبار للهوية المحلية، ويحوّل المجال من فضاء إداري إلى فضاء رمزي. الحكم الذاتي، إذن، ليس فقط توزيعا للسلطات، بل اعتراف بالخصوصيات، بما يعيد الاعتبار لفكرة العدالة الرمزية، ويجسد تصور بول ريكور للهوية كـ”سردية متعددة”، تدمج فيها الجهات دون محو أو إقصاء.

هذا الاعتراف يُحوّل الجهة من وحدة ترابية إلى فضاء للتمثيل الديمقراطي، ومن هامش إداري إلى مركز رمزي، ويُعيد بناء المواطنة على أساس التعدد الثقافي، لا على أساس التوحيد القسري.

 4 ـ الإنسيّة المغربية: مشروع حضاري متعدد ومتكامل

الإنسية المغربية ليست مجرد تعايش بين مكونات ثقافية، بل مشروع فلسفي–سياسي يُعيد تعريف الإنسان المغربي ككائن رمزي، يعيش في علاقة مع الأرض، اللغة، الطقوس، والذاكرة. الحكم الذاتي، في هذا السياق، يعيد الاعتبار للرموز المحلية، من الزي، إلى الشعر، إلى المعمار، ويُحوّلها إلى عناصر فاعلة في بناء المواطنة.

الإنسية المغربية تعيد بناء الدولة من الإنسان، لا من الجهاز، ومن الثقافة، لا من السلطة، وتحوّل الهوية من شعار إلى ممارسة، ومن خطاب إلى مؤسسة. إنها إنسية لا تُقصي، بل تُدمج، ولا تُوحد بالقوة، بل تُوحد بالاعتراف، وتعيد تشكيل العلاقة بين القانون والرمز، بين السيادة والذاكرة.

5 ـ استحقاقات 2026: لحظة تعاقدية في ظل الشرعية المزدوجة، الوطنية والأممية.

الانتخابات التشريعية القادمة تكتسب بعدا جديدًا في ظل القرار الأممي. فهي ليست فقط محطة داخلية، بل لحظة تعاقدية تُختبر فيها قدرة المغرب على تحويل الشرعية الدولية إلى شرعية شعبية، وعلى بناء مؤسسات تمثيلية حقيقية في الأقاليم الجنوبية وباقي الجهات الترابية الوطني.

لكي تكون هذه الانتخابات مدخلًا لتعاقد جديد، يجب أن تتوفر فيها شروط النزاهة، الشفافية، والمصداقية، وأن تُواكبها انفراج سياسي حقيقي يشمل عفوًا عامًا شاملًا، وقطعًا جذريًا مع الفساد، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. إنها لحظة تاريخية بامتياز فالديمقراطية ليست نظامًا جاهزًا، بل تعاقد متجدد، والانتخابات هي لحظة اختبار لهذا التعاقد ولمدى احترامه.

6. الدولة الاجتماعية كإطار للعدالة المجالية

الحكم الذاتي والجهوية الموسعة يجب أن يُربطا بمفهوم الدولة الاجتماعية، التي تضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل المواطنين، عبر سياسات عامة عادلة في التعليم، الصحة، والتشغيل، وسياسات عمومية موجهة للجهات المهمشة. الدولة الاجتماعية ليست مجرد توزيعللثروات، بل إعادة بناء للثقة، وضمان للكرامة، وتأسيس لمواطنة فعلية.

من منظور فلسفي العدالة لا تُقاس بالقوانين فقط، بل بالقدرة الفعلية على تحقيق الحرية و الحياة الكريمة. إنالحكم الذاتي، بهذا المعنى، يجب أن يكون مناسبة و مدخلًا لتحقيق العدالة المجالية الحقة، لا مجرد إعادة توزيع إداري للسلطات علما أن تنزيله سيطرح بل ويطرح من الآن سؤال ماهية هذه الجهوية الموسعة ومآلها الواقعي في ظل تنوع الخصوصيات الجهوية أو بعضها على الأقل.

7. الأحزاب والنخب: الثورة الداخلية كشرط للنجاعة الديمقراطية

لا يمكن للحكم الذاتي أن يُنجز دون نخب مؤهلة، وأحزاب ديمقراطية حقيقية. يجب أن تُعيد الأحزاب تأهيل نفسها ذاتيًا، وتُنتج نخبًا من داخل المجال، قادرة على تدبير المؤسسات المحلية، وصياغة السياسات العمومية، وتمثيل المواطنين بفعالية. أي أن يتحول الحزب إلى “مثقف جمعي”، يُعيد تشكيل الوعي السياسي، ويُجسد الإنسيّة الديمقراطية.

هذه الثورة الداخلية يجب أن تشمل:

إعادة بناء القرار الحزبي على أسس ديمقراطية.
القطع مع التوجيه الخارجي والولاء الشخصي.
إنتاج نخب محلية قادرة على التمثيل والتدبير.
تحويل الأحزاب إلى فضاءات للنقاش و بلورة التصورات ، لا أدوات انتخابية.

خاتمة تركيبية

قرار مجلس الأمن رقم 2797 يُكرّس فرضية هذه الورقة: أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو رافعة تأسيسية لمسار ديمقراطي متجدد. إنه لحظة تاريخية تُعيد بناء الدولة من الأطراف، وتُكرّس السيادة عبر التمثيلية، وتُعيد الاعتبار للهوية الرمزية والخصوصية المجالية، في إطار إنسية مغربية متعددة، عادلة، وموحدة.

لكن هذا التحول لا يمكن أن يتحقق تلقائيًا أو تقنيًا، بل يتطلب شروطًا سياسية ومؤسساتية وثقافية دقيقة، أهمها:

تعديل دستوري شامل يُدمج الحكم الذاتي كمؤسسة سياسية قائمة الذات، ويُعيد تعريف العلاقة بين المركز والجهات على أساس التعدد داخل الوحدة.
انفراج سياسي حقيقي يُعيد بناء الثقة، ويشمل عفوًا عامًا شاملًا، وقطعًا مع الفساد، وإعادة الاعتبار للمصالحة الوطنية كرافعة للتماسك.
انتخابات نزيهة سنة 2026 تُفرز نخبًا جديدة، وتُعيد الشرعية للمؤسسات، وتُجسد الإرادة الشعبية في تدبير الشأن العام.
تنزيل فعلي لمفهوم الدولة الاجتماعية، بما يضمن العدالة المجالية، ويُعيد توزيع الثروات، ويُكرّس الكرامة كمبدأ مؤسس للمواطنة.
ثورة داخل الأحزاب السياسية، تُعيد بناء القرار الحزبي على أسس ديمقراطية، وتُنتج نخبًا محلية قادرة على التمثيل والتدبير، وتُحوّل الأحزاب إلى فضاءات للنقاش العمومي لا أدوات انتخابية.

في ضوء هذه الشروط، يصبح الحكم الذاتي ليس فقط حلًا للنزاع، بل مشروعًا حضاريًا متكاملًا، يُعيد تشكيل الدولة المغربية على أسس جديدة: التعدد، الإنصاف، المشاركة. مشروع إعادة بناء الدولة من الإنسان، من المجال، ومن الذاكرة المشتركة، وتحويل السيادة من شعار إلى ممارسة، ومن القانون كحزمة إلى ثقافة سياسية.

لطالما كانت الصحراء المغربية جسرًا بين المغرب و عمقه ، بين الدولة والمجتمع، وبين السيادة والشرعية. واليوم، يُمكن للحكم الذاتي أن يُحوّل هذا الجسر إلى سكة ديمقراطية حقة، تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والمؤسسة، وتُكرّس التعدد داخل الوحدة، والتمثيلية داخل السيادة. بهذا المعنى، فإن قضية الصحراء لم تعد مجرد ملف دبلوماسيخاص، بل بإمكانها أن تتحول إلى فضاء تأسيسي لإعادة صياغة النموذج السياسي المغربي، حيث تتقاطع الجغرافيا مع التاريخ، وتُعاد موضعة الهوية ضمن مشروع ديمقراطي تعددي وحقيقي.

هو مشروع سياسي مغري لكن طريقه شائك وعر ومعقد ويتطلب وعيا سياسيا حادا بمرحلة تاريخية دقيقة جدا.

المصطفى سكم

10/11/2025


شاهد أيضا
تعليقات
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.