على ضفة كنال “هارو رود”..

العرائش نيوز:

بقلم : عبدالصمد الشنتوف
كنت قد بدأت أتأقلم شيئا فشيئا مع وضعي الجديد في لندن ، طرأ تغير على بعض عاداتي وسلوكياتي من دون أن أشعر ، أصبحت أمشي على الرصيف بدل السير في طريق السيارات ، أقطع ممرات الراجلين في هدوء بلا خوف . أقف عند طوابير منتظمة لركوب الحافلات وولوج المتاجر ، وأقوم بفرز القمامة ووضعها بشكل تلقائي في سلة المهملات . أخذت أتعلم الانضباط في إيقاع حياة مغايرة لما كنت عليه في المغرب . لم يكن الأمر سهلا وأنا أفك شفرات اللغة والثقافة الإنجليزبة .

ليلة السبت ، صعدت الباص فألفيته يعج بطوفان من الركاب ، جلهم شباب يافع في طريقه لإحياء سهرات الويكاند بالبارات والنوادي الليلية ، يثرثرون بلكنة لا أفهمها ، كاد رأسي أن ينفجر من شدة الصداع والصخب . لفظني الباص عند مترو “وستبورن بارك ” ، مضيت في طريقي أحث خطاي نحو بيت عبدالسلام . مررت في شارع شبه مقفر ، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلا بقليل ، تناهى إلى سمعي قهقهات شبان من حانة هارو رود المطلة على الكنال ، كانت ضاجة بهرج الرواد . خلال الويكاند ينهمك الإنجليز في حركة اللهو والمرح وكأنهم يقصدون الهروب من روتين قاتل وضغوطات حياة رتيبة ، بعدها يعودون لوظائفهم وأشغالهم يوم الإثنين ليقضونه بالتذمر والشكوى حتى صار الإثنين أتعس أيام الأسبوع لديهم . فتيات وشبان يقفون على عتبات الحانات ممسكين بكؤوس زجاجية ضخمة ، يفرغون جعة “لاغر” في جوفهم على دفعات في تمايل دون أن يفقدوا صوابهم أو توازنهم طيلة مدة الشراب . على الجانب الآخر من الكنال يسير المهاجر بوسلهام مترنحا فوق الرصيف يردد بصوت عال أغنية “ما أنا إلا بشر” ، ذلك أنه يفرط في شرب الخمر حتى يطير عقله ، يسقط على الأرض فيمشي حبوا على أربع ثم ينهض ثانية مغالبا قدميه ، يصرخ كأحمق فقد عقله ، يغمغم بكلام غامض حتى تظنه يقرأ عليك ترانيم “كريشنا” إلاه الهندوس .

حديث سكارى الإنجليز لا يشبه حديث سكارانا في شيء ، عندما تصعد الخمرة إلى رؤوسهم ينتشون ، يتضاحكون ، ثم يتبادلون القبلات في عناق حميم . أما سكارانا فينغمسون في صياح يزعج البشر والحجر ، يتشاجرون ، يتراشقون بالكراسي ، ثم يلعنون بعضهم بعضا وكأنهم صعاليك قريش . أحيانا عندما يشربون حتى الثمالة تنتابهم نوبات بكائية شديدة وكأنهم مجانين ، فتكسو الكآبة وجوههم البئيسة ، بينما المثقفون منهم ينهمكون في هجاء بعضهم بعضا بكلام تافه يشبه الزجل ، دون أن يغفلوا عن شتم السياسيين بكلام لاذع تنفيسا عن غضب يسكن قلوبهم .
تابعت سيري ، تهادت إلى مسامعي أصوات رنانة لفتيات شقراوات لا تخلو من غنج ودلال ، قهقهات مجلجلة لشبان تتعالى في فضاء شارع هارو رود .
صادفت على يميني متجر “سيفن إليفن” ، سرت قليلا ثم انعطفت يسارا على الكنال . شعرت بنسيم هواء عليل يداعب وجهي ، سكون الليل يراودني ، هناك على الضفة اليمنى من الكنال يقع منزل مضيفي عبدالسلام .

طرقت الباب في هدوء ، فإذا بي أجدني أمام رجل قصير القامة تعلو محياه ابتسامة واسعة بعينين متقدتين يمتزج فيهما الجود والحياء . رحب بي واستقبلني ببشاشة .
فجأة عدت بذاكرتي إلى الوراء وقد لاح في مخيالي عبد السلام حين كان تلميذا يدرس عند والدي بمدرسة الميناء في العرائش . تخيلته حين كان طفلا فقيرا ينحدر من عائلة متواضعة بحي “جنان الباشا” على أطراف المدينة ، كان شعلة من الذكاء ترفده أخلاق رفيعة . ما زلت أذكره وأنا طفل صغير أتردد على فصل والدي . كان يجلس مع التلاميذ المتفوقين في المقدمة فيما الكسالى منهم يسندون ظهورهم إلى الجدار متسمرين على طاولات خشبية متهالكة وكأنهم عند حائط المبكى . كان أبي يغدق على تلميذه العطف والاهتمام الزائد لأنه كان تلميذا نبيها يشع ذكاء ، تفوق في شهادة الابتدائي بميزة حسن جدا ، ثم انتقل إلى ثانوية “تيجيريا” .
على الرغم من بعد المسافة التي كانت تفصله عن بيتنا إلا أن والدي كان يقتفي أخباره بشغف . لبث التلميذ متفوقا إلى أن حصل على شهادة “بروفي” بامتياز ملحوظ .
تهادت أخبار إلى مسامع والدي تفيد أن تلميذه عبدالسلام تخلى عن الدراسة وغادر إلى بريطانيا ، فغضب أبي كثيرا ، حز في نفسه أن يضيع ذلك الفتى النابغة في بلاد النصارى ، شعر بضيم كبير ، واهتزت الأرض من تحت قدميه .

ذات يوم ، كان والدي يتجول بين جنبات سوق الخضار والفواكه ، وإذا بعينيه الثاقبتين تلمحان امرأة قصيرة القامة تدعى رحمة بنت علي ، لم تكن المرأة سوى والدة عبد السلام .
اقترب منها بخطى حثيثة مستوقفا إياها ، فسلم عليها وجرى بينهما هذا الحوار المثير :
– والدي : لماذا تركتم الولد يهاجر إلى بلاد النصارى ؟ .
– رحمة : حاولت أن أثنيه عن رأيه فلم أستطع .
– والدي : المهجر لم يوجد لمثل هؤلاء ، أوروبا قبلة للعاطلين عن العمل والفاشلين في الدراسة .
– رحمة : هذا ما قدره الله يا أستاذ محمد ، منذ أن هاجر والده إلى لندن وهو يحلم بالالتحاق به .
– فرد والدي بنبرة حادة تسودها الحسرة والغضب : هذه مصيبة للا رحمة ، “رزيتوني فالعايل ، رزيتوني فالعايل” ، (ضيعتموني في إبني ، ضيعتموني في إبني) ! .
كان أبي مهووسا بتلامذته الأذكياء ، يسأل عنهم ويراقبهم حتى بعد انتقالهم إلى الثانوي ، كان يحسبهم أبناءه غير البيولوجيين . وما سلوكه تجاه الحاج مالقا عندما نشب بينهما خلاف صاخب في إحدى زقاق المدينة على خلفية عقابه العنيف لتلميذه عبد العزيز إلا دليلا على ذلك . كان والدي ينازع الحاج مالقا حتى في بنوة إبنه ، ما عرفت رجلا في المدينة يفعل ذلك غيره . كان الحاج مالقا يحتج عاتبا : لا تضرب إبني ، فهو إبني وليس إبنك ، فيرد عليه أبي : هو إبنك في بيتك وأنا إبني في المدرسة .أنت مجرد حلاق لا تعرف الكثير ، أنا أدرى بمصلحته . نزاع يتسم بشيء من الغموض والغرابة حتى المحاكم لن تستطيع البث فيه أو تفكيك ألغازه .

هنا يتكرر مشهد مماثل مع “رحمة بنت علي” حول إبنها عبد السلام بإحدى دهاليز السوق . كان أبي يعلق آماله على تلامذته البارزين كي يتبوأوا مناصب سامية فيفخر بهم . لكن لم يسعفه القدر ، يدور الزمن دورته وتسري مياه كثيرة تحت الجسر ، فيهاجر عبد السلام إلى لندن وبقدرة قادر يتحول إلى منقذ لإبن أستاذه من التسكع في شوارع مدينة الضباب .
لا أحد يتنبأ ما تخبئه لنا الأيام ، يمضي الزمن دون أن يحابي أحدا ، أحيانا يتبسم لك وأحيانا يقسو عليك ، هكذا سنة الحياة .
استلم مني عبد السلام حقيبتي الرثة ، ودلفت إلى صالة الضيوف . فوجئت بوجوه أعرفها حق المعرفة بمدينتي ، ثلاثة لاعبين بفريق شباب العرائش لكرة القدم منتشرين فوق الأرائك وكأنهم طيور مهاجرة . إدريس بايا مستلقيا جهة اليمين ، محمد كوابل جهة اليسار ، أما حسن هامون فكان يتوسطهما بجسده العملاق وكأنه يحرسهما .
انتحى شخص بوجه ساهم إلى إحدى أطراف الصالة ، تفحصت ملامحه فتعرفت عليه رغم مرور سنين طويلة ، ملامحه لم تتغير إلا لماما ، كنت أعرفه في العرائش بإسم الطجني ، إلا أنني اندهشت من الجميع ينادونه بإسم كربوزي . على يساره شخص يدعى حميد ينحدر من مدينة القنيطرة ، وهو مهاجر لطيف يسكن بجوار عبد السلام ، بحيث يطل منزلاهما مباشرة على ضفة الكنال . كانت علامات الحزن طافحة على وجه حميد ، يلبث صامتا معظم الوقت ، ينصت إليك أكثر مما يتكلم ، على عكس الطجني الذي لا يتعب من الكلام وسرد أساطير “جنان قريوار” . علمت بعدها أن المهاجر حميد أصابته فاجعة كبرى ، للتو خرج من أزمة نفسية حادة ألمت به ، ذلك أن طفله الصغير سقط في الوادي وقضى غرقا . قيل أنه كان حدثا مروعا غطته وسائل إعلام محلية في غرب لندن .
سألني عبدالسلام هل أنت جائع ؟ ، رددت عليه بالإيجاب . بعد وهلة أتاني بطبق من دجاج محمر تحفه خضروات طازجة مع حبات زيتون ، شرعت في التهام الطعام بشراهة حتى أتيت على كل ما في الصحن . ظل الجميع مصوب عيونه نحوي ، خلت نفسي كأشعب الطماع . طفق “هامون” يقصفني بقفشات ساخرة قائلا :
– كوشت على الصحن وكأنك هارب من سجن “ألكطراس” ! اهتز “كوابل” من شدة الضحك .
– أجبته :
– ليس هناك فرق يذكر بين قسم الداخلي بطنجة وسجن “ألكطراس” !
كنا ندرس ونقطن سويا في معهد التكنولوجيا حيث كانت غرفته مجاورة لغرفتي .
استرسل حسن قائلا :
– كنت أمقت وجبة غداء يوم الخميس ، سمكة بشعة تشبه ضفدع يتيم يسبح في بركة صلصة حمراء ، فانفجر الجميع ضحكا من هذا الوصف المجنون . كانت أوضاعنا المعيشية صعبة للغاية ، أحيانا كنت أتألم من سوء التغدية والبرد ، فيفقد جسمي الهزيل بعضا من وزنه . ذكرني حسن بقصة طريفة حدثت لي :
” ذات يوم رحت مع صديقي هاشمي في زيارة زملائنا بغرفة محاذية ، كان الطقس ربيعا ، نستمع إلى الأخبار على راديو ميدي1 : ريغان يقود هجوما عسكريا بالطائرات على القذافي في ليبيا ، اشتد جدال وصخب بيننا ، بعضنا مؤيد لأمريكا وبعضنا الآخر معارض للضربة . على حين غرة ، أخذت الكلمة وأنا كلي حماس أدافع في خطبة عصماء عن السوفيات . قلت إن نظام الاشتراكية يحقق عدالة اجتماعية بين الناس أكثر من النظام الرأسمالي ، وفي المعسكر الشيوعي وسائل الإنتاح في ملكية الدولة والمواطنون مجرد موظفين متساوين يعملون بتشاركية وانضباط عندها . على عكس النظام الرأسمالي المتوحش الذي يقوم على فوارق طبقية بشعة ، حيث تجد في أمريكا مواطنا يركب دراجة وآخر يركب ليموزين . كان الجميع ينصت إلي في ذهول ، كنت أتخيل نفسي مثل الزعيم الأممي غيفارا ، فقفز الحمودي من مكانه قائلا : أين تعلمت كل هذا أيها “المسخوط” ؟ ، فأجبته مزهوا : هذه أفكار طوباوية جئتكم بها من عند طلاب قاعديين بجامعة تطوان . كنت أتردد على بيت أحدهم رفقة صديقي عبدالملك فننخرط في حديث سياسي صاخب لساعات طويلة .
بعدما فرغنا من جدال بيزنطي انزويت إلى مكان في الغرفة لأحضر بيضة على مقلاة أسد بها رمقي ، فإذا بزملائي يندفعون نحوي ليتقاسموا معي بيضتي ، لكني انحنيت وكوشت على مقلاتي بذراعي رافضا مشاركتهم لي . فاستاؤوا من تصرفي وانتفضوا ضدي في صياح شديد ، فشرعوا في رشقي بألفاظ نابية :
العمراني يقول :
– أنت غارق في أنانيتك ، ولا تفكر سوى في نفسك !
– الحمودي يتهمني بالنفاق والتنكر لمبادئي ، لأنني أقول الشيء وآتي نقيضه !
كنت أدافع عن نفسي قائلا :
– هذا أمر مستحيل ، أنا جائع ، لا أحد أريده أن يشاركني بيضتي . إذهبوا عني أيها الأوباش !
شعيب يرد :
– مبادئ الاشتراكية تقتضي أن تشاركنا بيضتك !
تمسكت برأيي مرددا :
– غير ممكن ، غير ممكن ! لم يوصني الزعيم لينين بإطعام كل طلبة القسم الداخلي ببيضة واحدة !
فانتفض السملالي غاضبا :
– ولماذا غير ممكن ؟ !
فأجبته متهكما :
– أنتم مجانين ، كيف لشعوب الاتحاد السوفياتي أن يلتهموا بيضة واحدة ؟ ! ، فانفجر الرهط ضحكا حتى برقت أعينهم بالدموع . بعدها تسللت عبر الباب ممسكا بمقلاتي ، وهربت نحو غرفتي كي ألتهم بيضتي بمفردي بعيدا عن حديث الرفاق المشاغبين” .

كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل ، استدرت نحو عبدالسلام كي أشعره بتعبي ، قلت له غدا لدي عمل في صباح باكر ، وأحتاج إلى قسط من الراحة . فأشار على الطجني أن أرافقه إلى بيته بشارع “بورتنال رود” المجاور كي أقضي ليلتي هناك لأن أسرته كانت في عطلة بالمغرب . سرنا سويا مسافة ربع ميل وقد أنهكني التعب . أبدى الطجني رغبة في الحديث بعدما تحركت في دواخله نوسطالجيا الماضي . بدأت تتمايل في رأسه حكايات عايشها مع رفاقه بحي جنان قريوار قبل هجرته إلى لندن . أعرف رفاقه واحدا واحدا ، منهم من قضى نحبه ومنهم من لا يزال حيا يرزق . لكنه حديث ذو شجون فيه عودة لتقليب المواجع . اعتذرت له ورجوته أن نؤجل الحديث إلى يوم غد بعدما شكرته على استضافته .
استبد بي وهن شديد وقد تسلل نعاس ثقيل إلى جفوني ، ما إن ولجت عتبة البيت حتى ارتميت بجسدي على أريكة الصالة . سحبت لحافا خفيفا وتغطيت به ، رفعت عيناي نحو السقف وأنا أبتسم في امتنان ، مر بذهني شريط لصور سوزان ، كنت قد بدأت أحبها . بعد برهة أطبقت جفوني وغبت في نوم عميق أشبه بالموت…
طنجة : 23 غشت 2021


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.