مجنون التايمز

العرائش نيوز:

بقلم : عبد الصمد الشنتوف

هذا الصباح، اكتسح ضباب كثيف سماء لندن وضربت عاصفة باردة ربوع المدينة. طقس غائم كئيب. خطوات الناس سريعة. لا أحد يلتفت إلى الآخر أو يهتم به. نظرت عبر نافذة القطار فأبهرني مشهد لندن الصباحي الذاهل، ينتشر الضباب بين مبانيها بصورة كثيفة حتى لا يكاد يظهر سوى قمم أبراجها، مع اختفاء باقي المدينة في بحر لجي من الضباب. مدينة مناخها دائم الغمام، ومعتم حتى في فصل الصيف.

 يواصل القطار سيره على إيقاع معزوفات موسيقية “كانتري” تطرب سمعنا. يقف في عمق العربة شاب أشقر يرخي على كتفيه شعرا طويلا يؤدي أغاني “كيني روجرز” بمهارة فائقة، بعدها يطوف بقيثارة مهترئة بين الركاب ليلتقط حفنة من الجنيهات. مشهد مألوف في بهو محطات المترو وداخل قطارات لندن أيضا، ذلك لأن الإنجليز شعب يتذوق الموسيقى ويعشقها إلى حد الإدمان. 

عبر القطار جسر واترلو الضخم إلى ضفة أخرى من نهر التايمز. ثمة دخان كثيف يصعد من مدخنة عالية تعود لأحد المصانع يمتزج بضباب طبيعي، فيتحول الى كتلة ضبابية ملوثة حاجبة للرؤية وكأنها لوحة فنية تزين سماء مسرح غلوب شكسبير. على مرمى بصري أشاهد كاتدرائية القديس سانت بول بقبتها البيضاء التي شهدت مراسيم زفاف الأميرين شارلز وديانا الشهير، وهو زفاف أسطوري تابعه العالم بأسره عبر شاشة التلفاز. يغشى الضباب الكاتدرائية من كل جانب، والقبة الضخمة تبدو في رونق ساحر وكأنها صخرة ثلجية منحوتة على شكل دائري. 

وصل القطار محطة “هاكني ويك” بعد رحلة استكشافية مشوقة لمدينة أحلامي، لكن اشتياقي إلى رؤية حبيبتي سوزان كان أشد. 

قدمت لها التحية “كود مورنين” وقد لاحت على محياي ابتسامة توق وحنين تلقائي، فردت بأخرى أكثر شوقا وصبابة، إبتسامة حبلى بكل معاني الحب والولع. 

أخذت مكان عملي بمنضدتي، وشرعت في ثقب قطع جلدية تصلني عبر السلسلة. كنت أسهو ويغيب عني التركيز، لا أدري لماذا يشرد مخيالي بي إلى أفق بعيد. أراني أتجول رفقة حبيبتي بشارع “ريجنت ستريت” نتناول بوظة “آيس كريم” الإيطالية، من حين لآخر أختلس النظرات إلى سوزان وهي منهمكة في خطوطها ورسومها. كنت أتخيلها تسير بجانبي وذراعانا يطوقان خصرينا، أرى إبتسامتها العذبة ممتزجة بحمرة وجنتيها، خصلات شعرها البني المنسدل على كتفيها يتطاير في الهواء كلما هبت عليه رياح ناعمة بشارع أكسفورد الفاخر.

 حلت ساعة الاستراحة وكلي اشتياق لأصطحبها لمطعم الحي الصناعي. قررت اليوم أن ألتهم طبق “موساكا” اليوناني، طبق شهي بالجبنة والباذنجان طالما حدثتني عنه سوزان ورغبتني فيه، أتذوقه أول مرة في حياتي سيما وأنا عاشق الباذنجان.

 حينما فرغنا من الطعام حدقت سوزان في عيني وطالعتني بابتسامة مرهفة. أخرجت من حقيبة يدها شيئا ملفوفا ومنحتني إياه دون أن أعلم كنهه، لما فتحته وجدته أقصوصة إنجليزية أهدتني إياها. شدني إحساس جميل، وسرتني التفاتتها المعبرة. شعرت بنشوة تجتاحني وأنا أقتحم عالمها الساحر. عالم الرقة والحنان والعاطفة الجياشة. شعرت لأول مرة أن قلبي تغشاه أحاسيس رقيقة ونبضات العشق تسري في روحي، تحول قلبي من صحراء قاحلة إلى جنة غناء يرويها حب سوزان ويرعاها طيفها. 

أثنيت عليها قائلا: 

– أنت قبرصية جميلة سحرت قلبي بكرمك.

ردت علي: 

– وأنت عربي جذاب فتنت عقلي. 

فيما أنا أتبادل عبارات رومانسية مع سوزان، داهمني على حين غرة شعور فظيع، شيء مثل شبح يطاردني، أصبح هكتور مثل كابوس لا يفارق مخيالي، يتربص بي ويتصيد فرصة سانحة لإقصائي من هذا الهيام الجميل الذي يكبر بيني وبين سوزان، حتى خفت أن أفقده ويضيع مني.

 عندما فرغنا من الورشة ودعتها عند باب المترو ووعدتها بأني سأتفرغ لقراءة الأقصوصة هذا المساء على ضفة نهر “التايمز” العظيم.

تسلقت القطار ورحت على محطة “وستمنستر”. رفعت بصري نحو ساعة عملاقة مثبتة أعلى البهو، كانت تشير إلى السابعة. بمجرد ما غادرت المحطة الضاجة بالركاب، لففت على يميني وسرت بضع خطوات لأجدني قرب ضفة نهر التايمز الذي طالما قرأت عنه في المجلات. يقال أن اسم نهر التايمز مشتق من كلمة يونانية تعني المياه الداكنة. تابعت خطواتي في هدوء، متأملا صف الكنبات الطويل على جانب النهر. الجو رطب معتدل، لون السماء مخضب بمسحات برتقالية تنعكس على سطح النهر ساعة الغروب. يعج الممشى بحشد من المتنزهين، تزينه أشجار “مانوليا” ذات أزهار بيضاء، عندما تسقط على الأرض تزيدها رونقا وبهاء. معظم الكنبات المرصفة على ضفاف النهر آهلة، لم أستطع الحصول على كنبة شاغرة. مررت بكرسي فوجدت عشيقين ملتصقين ببعضهما وكأنهما توأم سيامي، تخيلتهما يتعاهدان على عدم الفراق، يضمها بذراعيه ويشد عليها، فترمي برأسها على صدره، يتردد النفس في صدريهما في آن واحد، يسود صمت قاتل بينهما، إنه صمت العاشقين. 

على كنبة أخرى يستوي عشيقان منغمسان في حديث صاخب، يصيح العشيق بحدة تارة ويهدأ تارة أخرى، يعلو صوته في الفضاء وينفعل، فتخفض صوتها تفاديا للصدام، حتى الإنجليز يتصايحون مثلنا على الرغم من برودة مناخهم ودمائهم. قلت في نفسي: هذا هو حال العاشقين عبر العالم، لا فرق بين إنجليز وعرب. على ضفاف النهر ينمو الحب وتستمر سمفونية العشق.

هناك على كنبة بعيدة، أجد رجلا يعتمر قبعة إيطالية، يجلس وحده في صمت، ويكتفي بالنظر إلى النهر وكأنه يحدثه في أمر مهم، يطعم البط بفتات من الخبز، يسرح بخياله وهو مصوب بصره إلى النهر الهادئ، ما أن ينتهي من إطعام البط حتى ينفض يديه، يعتدل فوق منتصف الكنبة برهة ثم ينزوي إلى الطرف الآخر، يهز رأسه نحو السماء عاقدا حاجبيه فيحرك أذنيه في حركة غرببة. استأذنته بالجلوس فأذن لي، وما إن هممت بالجلوس، حتى قام مغادرا وهو يقول معتذرا: لدي موعد عند مصب النهر. طفق يتمتم وهو يضرب الأرض بقدميه ثم انصرف إلى سبيله. صعقت من كلام الرجل وحركاته وقلت: ربما هذا رجل مجنون. يذكرني برجل أبله في العرائش يدعى احميدو. كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب، ولسانه لا يفتأ يرتل سوره وهو سائر في الطريق. يقضي طيلة يومه يتسول النقود ويجوب المقاهي ملتقطا النقود النحاسية منها. ويظل يتسكع دون كلل لساعات طويلة إلى أن تقوده قدماه إلى ضفاف نهر لوكوس. أحيانا كان يتابع سيره مشيا إلى مدينة أصيلا، فيقوم سائق يدعى العياشي بجلبه للمدينة مجانا في حافلته. كان يجلسه على صندوق المحرك في مقدمة الحافلة والمسكين يتحمل حرارة المحرك التي تشعل مؤخرته. يحملق في وجوه الركاب بتمعن ثم يشرع في تلاوة سورة “يس” على طريقته. بعدها يلوذ بالصمت قليلا، ثم يطلق قهقهات مدوية من دون سبب. يميل برأسه جانبا فيحدق في الفراغ حتى يبدو ساهما ثم يعود فيسدد بصره تجاه الركاب ثانية وكأنه يريد أن يلقنهم درسا بليغا من دروس الحياة. كان مشهده يبعث على الشفقة. رجل مريض عقليا يعيش تائها في كنف مجتمع متخلف.

إنها مأساة الحمقى في مجتمع لا يرحم مرضى فقدوا عقولهم. وطن قاس لا يتسع لجميع مواطنيه. أناس صاروا مجانين لأسباب نفسية معقدة، أو لظروف اجتماعية قاهرة، فصاروا هزوا بين الناس، هكذا حال المختلين عقليا في بلدنا، ينهضون باكرا بلا برنامج يومي، يمشون في الشوارع والأسواق بدون أي وجهة محددة، لا شك أنهم مواطنون طيبون، لكنهم فقدوا بوصلة الحياة.

أمسكت كتابي وبدأت أتصفحه، قرأت منه بعض القصص، فهمت بعضها وما غاب عني سأستفسر عنه سوزان يوم غد. تمنيت لو كانت سوزان بجانبي على الكنبة ونظراتنا مصوبة نحو النهر، فأهمس في أذنيها بعبارات الغزل تجعل قلبها يرقص طربا على وقع ضربات كلماتي كشاعر متيم. 

استشعرت نسمات المساء الدافئة، بدا قرص الشمس متقلصا على وشك الاختفاء كليا، نهضت من الكنبة وتابعت خطواتي على ممشى النهر، نسيم رطب يلاطف وجهي، على الضفة المقابلة أرمق ساعة “بيغ بان” الشهيرة بأربع وجوه، وهي تراث معماري يغطي واجهة أعرق مبنى برلمان في العالم، ساعة عملاقة تدق أجراسها كل ربع ساعة.

 واصلت سيري بخطى متثاقلة تجاه برج لندن العتيق، يطل علي من بعيد وسط خيوط شمس قرمزية، برج تم تشييده على ضفة نهر التايمز في نهاية القرن الحادي عشر بأمر من الملك وليام، ثم صار رمزا لدحر العائلة المالكة الحاكمة لأعدائها في لندن كما يحكي التاريخ. بعد المغيب يرخي الليل سدوله العاتمة، يهدأ الصخب لبرهة من الوقت إلا من حركة مراكب وسفن تمر أمام عيني محملة بالسياح، تنبعث منها أضواء ملونة، قهقهات، وصوت موسيقى صاخبة يصل أذني، نهر التايمز يغمر لندن سحرا وجمالا خلال الليل. 

تخيلت سوزان وهي تمشي متأبطة ذراعي على رصيف النهر الساحر، نهر أبهر بجماله العشاق والأدباء والفنانين. 

 أخذت أقترب من جسر البرج العظيم الممتد عاليا فوق النهر، جسر تغنى به الشعراء وكتب عنه الروائي ديكنز، كما شاهدته مرات عديدة على شاشة السينما. يحكى أن مشاهد عديدة من إحدى أفلام جيمس بوند جرى تصويرها فوق الجسر الذي يعد من أكبر المعالم السياحية جذبا للزوار بلندن. 

وبعد أن طوت قدماي مسافة طويلة من رصيف ضفاف النهر الباهر، وجدتني أمر أمام محطة “تاور هيل”. كان المصعد معطلا، هبطت سلالم نفق سحيق يشبه قعر بئر حتى تناهى إلى سمعي زعيق باب القطار. سارعت بالقفز داخله ليحملني إلى “أرنوس غروف”. 

تراءى أمامي طيلة الرحلة طيف سوزان الذي أصبح لا يفارق ذهني. غدا سألقاها وأحكي لها كل خيالاتي الرومانسية التي راودتني تجاهها.

 

 

 


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.