العرائش نيوز:
لم يعد وضع المسابقات الرياضية الكونية، مثل كأس العالم والألعاب الأولمبية، في خانة مؤسسات الهيمنة التي تنتمي للنظام الدولي، بوصفه «غربيًا ورأسماليًا واستعماريًا وأبيض»، يحتاج إلى برهان. كان الغزو الروسي لأوكرانيا كاشفًا. خلال ساعاتٍ انقسم العالم إلى فسطاطين: الغرب الأقليّ المهيمن وأذياله المؤسسية سياسيًا وثقافيًا وماليًا ورياضيًا، في مواجهة بقية العالم.
كشفت خارطة العقوبات الغربية ضد روسيا في ذلك الوقت عن مدى تغلغل الهيمنة الغربية. من عقوبات ثقيلة استهدفت سوق الطاقة والأموال الروسية وصولًا إلى «الفيدرالية العالمية للقطط»، التي أقرت منعًا دوليًا لاستيراد أي نوع قطط من روسيا، مرورًا بالعقوبات الرياضية، التي فرضتها الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية، ذراعا الهيمنة الغربية الرأسمالية على الرياضة في العالم.
كانت العقوبات ضد روسيا، مبررةً بغطاء أخلاقي بيدو وجيهًا من الناحية النظرية، بوصف موسكو بلدًا غازيًا لدولة مستقلة. وعلى نحو معكوسٍ تمامًا، لم تُحرّك هذه الهياكل الرياضية -الأشد حرصًا على استقلال الشعوب- ساكنًا قبل عقدين من الزمان، عندما غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق، خلافًا للإجماع الأممي، وواصل الرياضيون الأمريكيون المشاركة في مختلف المسابقات دون تحفظٍ. والأشد طرافةً أن اللجنة الأولمبية قامت بتعديل ميثاقها الكوني صيف عام 2003، فيما كانت الدبابات الأمريكية تذرع العراق طولًا وعرضًا، قائلة: «إن هدف الحركة الأولمبية هو وضع الرياضة في كل مكان في خدمة التنمية المتناغمة للإنسان، بهدف تشجيع إقامة مجتمع سلمي، يهتم بالحفاظ على كرامة الإنسان». ومع ذلك فقد رحبت بمشاركة 533 رياضيًا أمريكيًا في أولمبياد أثينا 2004، والاحتلال ما زال في أوجه.
تعود الألعاب الأولمبية الصيفية هذا العام إلى باريس بعد مائة عامٍ من الغياب، لكن الدعاية الأولمبية الفجة لم تتغير. عن «السلام الأولمبي»، و«الصداقة بين الشعوب»، و«الاحتفال الكبير بالشباب»، وغيره من الهراء الأيديولوجي الذي تنقله المؤسسة الأولمبية على نطاق واسع، بالتنسيق مع جميع أجهزة الدعاية الوطنية أو العابرة للحدود الوطنية التي تم حشدها للاحتفال بالدورة. في الوقت الذي رفضت فيه اللجنة الأولمبية والبلد المضيف كل النداءات حول منع الكيان الإسرائيلي من المشاركة، أو على الأقل حظر رفع علمه في حفل الافتتاح. وعلى نحو أكثر مضاضةً، سيشارك الكيان بعد أيامٍ في الألعاب فيما ما يزال جيشه بصدد استكمال أركان الإبادة الجماعية في غزة، دون أن تشير اللجنة الأولمبية إليه حتى بعبارات التوبيخ الخفيفة، فضلًا عن أن تتمتع بالجسارة لتمنع مشاركة الرياضيين الإسرائيليين الذين كان بعضهم أو كلهم يومًا جنودًا في جيش الاحتلال.
لكن نظرة إلى الخلف، في تاريخ الألعاب والقائمين عليها، ستكشف عن انعدام الأمل في استفاقة محتملة لهذا الكيان الرياضي المتوحش.
مؤسس الألعاب الأولمبية الكاره للنساء
يرتبط الوجه القبيح للألعاب الأولمبية أولًا بمؤسسها الفرنسي، بيير دي كوبرتان. والذي شغل منصب رئاسة اللجنة الأولمبية منذ تأسيسها عام 1896 حتى 1925. ولد كوبرتان في باريس عام 1863، داخل عائلة أرستقراطية وملكية كاثوليكية. كان مغرمًا بالرياضات الفردية والثقافة الإنجليزية. في عام 1883، خلال رحلة أولى إلى بريطانيا، أعقبتها العديد من الرحلات الأخرى، اكتشف كوبرتان ما أصبح مجال عمله: التعليم وتجديد نظام التدريس الفرنسي الذي اعتبره قديمًا ومتصلبًا، ولفته الموقع المميز الممنوح للنشاط البدني في نظام التعليم الإنجليزي. مكرسًا حياته لهذه المهمة التي رأى فيها العامل الحاسم في مستقبل الحضارة الأوروبية. وقد وجد في إعادة إحياء الألعاب الأولمبية، البائدة منذ العصر اليوناني الذهبي، وسيلةً لجعل الرياضة أداة تعبئة قومية لهذه القارة التي كانت تستعد للسيطرة على كافة أنحاء العالم.
خلافًا للدعاية الأولمبية السائدة حول كوبرتان «الإنساني المحب للسلام وللبشرية وللإخاء بين الشعوب»، فإن الرجل كان عكس ذلك تمامًا. يحكي في سيرته بلا مواربةٍ، بأنه كان مؤيدًا متحمسًا للاستعمار إلى حد التعصب، وقد رأى في السياسة الاستعمارية الفرنسية عاملًا من عوامل العظمة الوطنية. كما رأى في الرياضة، مثل العديد من النخب في الجمهورية الفرنسية الثالثة، «أداةً مفيدة لتأديب السكان الأصليين ونشر الحضارة في صفوفهم». وينقل إيف بيير بولون، في كتابه «الحياة والعمل التربوي لبيير دي كوبرتان: 1863-1937» عن كوبرتان قوله: «إن الأجناس ذات قيمة مختلفة، والعرق الأبيض، ذو جوهر متفوق، ويجب على جميع الآخرين أن يدينوا له بالولاء». وهذه الرؤية غير المتكافئة للعالم لا تقتصر على المجال العرقي وحده، بل إنها تصل في بعض الأحيان إلى المفاضلة بين البشر وفقًا لرؤية داروينية اجتماعية، فالمجتمع كله بالنسبة له منقسم بين قوي وضعيف: «هناك جنسان متمايزان، الأول ذو النظرة الصريحة، القوي العضلات، ذو المشية الواثقة، والآخر المريض ذو التعبير المستسلم المتواضع المهزوم».
هذه النظرة الضيقة للبشر، جعلت كوبرتان، فضلًا عن عنصريته العرقية كارهًا صريحًا للنساء، ومعارضًا شديدًا لمشاركتهن في الألعاب الأولمبية. وعندما سئل عن ذلك أجاب بصراحة: «أولمبياد أنثوي صغير بجوار أولمبياد الذكور الكبير. أين ستكون الفائدة؟ يبدو ذلك غير عملي، وغير مثير للاهتمام، وقبيح المظهر، ونحن لا نخشى أن نضيف: غير صائب، سيكون هذا في رأينا نصف الألعاب الأولمبية للسيدات. ليس هذا هو مفهومنا للألعاب الأولمبية التي سعينا، ويجب أن نستمر في السعي كي تحقق الصيغة التالية: التمجيد الرسمي والدوري لألعاب القوى الذكورية مع الأممية كأساس، والولاء كوسيلة، والفن كإطار. وتصفيق نسائي فوق المدرجات كمكافأة».
هذه الخلفية العنصرية الاستعمارية للمؤسس، ستطبع الألعاب الأولمبية خلال سنواتها الأولى بشكل واضحٍ وفجّ. بعد أن تحولت النسخة الثالثة من الألعاب في في سانت لويس بولاية ميسوري في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1904 إلى فضيحةٍ تاريخية. فقد تم تنظيم «الأيام الأنثروبولوجية» كجزء من الألعاب، مخصصة حصريًا للأشخاص المنتمين إلى «القبائل المتوحشة» التي تعتبر «أقل تحضرًا». وهم الذين تم جلبهم من السكان الأصليين للمستعمرات الغربية المختلفة، وكان الهدف هو إثبات العيوب الرياضية للأعراق التي تعتبر أقل شأنًا. كانت المسابقات في هذه الأيام، تشبه إلى حد كبير «حدائق الحيوان البشرية»، التي انتشرت في أوربا خلال القرن التاسع عشر. فقد تم إيواء الرياضيين في منازل تمثل «بيئتهم الطبيعية»، واختبارهم في مسابقات مثل تسلق الأشجار، أو رمي الطين أو المعارك بين قبائل الموهوك وسينيكا الأصلية.
ثم جاءت لحظة الحرب العالمية الأولى، لتنسف صورة بيير دي كوبرتان رائد السلام، بعد أن اصطف بقوة في معسكر فرنسا وحلفائها، مطالبًا بالانتقام من الألمان، مقدمًا الرياضة كوسيلة لجعل الممارسين أكثر استعدادًا للحرب. لكن هذا العداء للألمان لن يمنعه بعد سنواتٍ من دعم تنظيم دورة الألعاب الأولمبية، بوصفه رئيسًا فخريًا للجنة الدولية، في برلين عام 1936، في دعم واضحٍ للنظام النازي الحاكم حينذاك.
القُبح المؤسسي
بعد فترة وجيزة من وصول أدولف هتلر إلى السلطة في عام 1933، وجد القائد النازي في الألعاب الأولمبية فرضةً لتطبيع وجوده الدولي وإبراز تفوق الألمان. لمدة أسبوعين في آب 1936، قام هتلر بتمويه برنامجه المعادي للسامية وللشعوب غير الآرية، خلال دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في برلين. على أمل إثارة إعجاب العديد من الزوار الأجانب. وكان العدّاء الأمريكي الأسود جيسي أوينز بطل هذه النسخة الأبرز، حيث فاز بأربع ميداليات ذهبية، في حدث أولمبي كان بمثابة دعاية لأطروحات فاشية حول تفوق العرق الآري على اليهود والسود والغجر. لكن الأشد طرافةً أن أرملة أوينز قالت في كلمة لافتتاح الملعب الأولمبي الجديد في برلين عام 1984، أن السلطات النازية قد عاملت زوجها باحترام أكثر من احترام قادة فريقه الوطني الأمريكي، فحتى ذلك الوقت، في ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن جيسي أوينز قادرًا حتى على دخول الأماكن العامة فضلًا عن المؤسسات الرياضية الرسمية، من الباب نفسه الذي يدخل منه زملاؤه البيض بسبب «قوانين جيم كرو» العنصرية.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت دورية تنظيم الألعاب مستقرةً، ودخلت اللجنة الأولمبية الدولية في نسيج معقد من مؤسسات النظام الدولي الوليد، كما تحولت إلى إقطاعية للأوليغارشية السياسية والمالية العالمية، ومساهمًا بارزًا في نظام الهيمنة الدولي. لكن السياق العالمي ما بعد الحرب، فرضَ على اللجنة واقعًا جديدًا يتعلق بموجة تصفية الاستعمار، وبالتالي انضمام دول جديدة من إفريقيا وآسيا، وظهور مراكز قوى مختلفة في مستوى حوكمة وإدارة اللجنة وخاصة فيما يتعلق بالتصويت. وهو ما ظهر واضحًا في عام 1969، عندما قررت اللجنة الأولمبية الدولية دعوة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا للمشاركة في دورة المكسيك، إلا أن هذا القرار تم سحبه في مواجهة رد فعل شعبي ورسمي قوي أدّى إلى فرض حظر على جنوب إفريقيا حتى عام 1990، بعد إطلاق سراح نيلسون مانديلا.
لكن دورة مكسيكو 1968، ستشهد حدثًا آخر يكشف عن مدى خضوع اللجنة الأولمبية للهيمنة الأمريكية. نُظمت الدورة في عهد الرئيس، غوستافو دياز أورداز، أحد أشد الموالين لوشنطن، والذي كشفت الوثائق الأمريكية في عام 2017، عن تعاونه المديد مع المخابرات المركزية الأمريكية قبل أن يصير رئيسًا. وشهدت حادثة القبضة المرفوعة لـ«القوة السوداء»، التي قام بها تومي سميث وجون كارلوس خلال حفل تسلم الميداليات، كاحتجاجٍ سياسي ضد السياسات العنصرية الأمريكية. كان الحدث منقولًا على الهواء، وقد بدت التحية التي ألقاها سميث وكارلوس غريبةً وصادمةً.
ارتدى سميث وشاحًا أسود حول رقبته لتمثيل الفخر الأسود، وفك كارلوس سحاب الجزء العلوي من بدلته الرياضية لإظهار التضامن مع جميع العمال ذوي الياقات الزرقاء في الولايات المتحدة وارتدى عقدًا من الخرز وصفه بأنه «كان لأولئك الأفراد الذين تعرّضوا للشنق أو القتل ولم يُصلّ عليهم أحد». كما وضعا على الجانب الأيسر من السترة الرياضية شارات المشروع الأولمبي لحقوق الإنسان، الذي أطلقه هاري إدواردز، الرياضي وعالم الاجتماع الذي كان يحث الرياضيين السود على مقاطعة الألعاب. لكن سميث ورفيقه سيدفعان ثمن تلك القبضة العالية غاليًا. في اليوم التالي، أعلن رئيس اللجنة الأولمبية الدولية أفيري برونداج، أن ما قاما به فعل سياسي لا يتوافق مع مواثيق الألعاب الأولمبية. وردًا على تصرفاتهما، قرر توقيف سميث وكارلوس عن المشاركة الأولمبية مدى الحياة.
العنصرية المزمنة
في مواجهة هذه النزعة الاستعمارية العنصرية ظهرت العديد من المحاولات المضادة للألعاب الأولمبية، من منطلق مساواتي. كان أولها أولمبياد فرانكفورت للعمال عام 1925، الذي تم تنظيمه من قبل المنظمة الرياضية الدولية للعمال الاشتراكيين. وقد أقيمت منه في فترة ما الحربيين ثلاث نسخ، الثانية كانت في فيينا عام 1931 والثالثة عام 1937 في أنتويرب فيما ألغيت دورة الألعاب الأولمبية العمالية الرابعة المقرر إجراؤها عام 1943 في هلسنكي بسبب الحرب العالمية الثانية. سعى الأولمبياد العمالي إلى تجنب إبراز المنافسات الوطنية من خلال المنافسة الرياضية، كما اتُهمت الألعاب الأولمبية آنذاك، من خلال التأكيد على التضامن والأخوة في الرياضة. ولذلك تم استبدال النشيد الوطني بالأممية، وكان العلم الوحيد المرفرف هناك هو العلم الأحمر، كما عزز مشاركة النساء في المسابقات.
ومن المحاولات الأخرى المضادة للألعاب الأولمبية، كانت أولمبياد برشلونة الشعبي عام 1936 تحت حكم الجمهورية اليسارية، المضاد لأولمبياد برلين تحت الحكم النازي. في تلك الفترة شهدت أوروبا تصاعدًا في تشكل الجبهات الشعبية، التي ضمت الشيوعيين والجمهوريين اليساريين في مواجهة الفاشية. اخترقت مبادئ التعاون بين الاشتراكيين والشيوعيين ومن ثم إنشاء الجبهات الشعبية عالم الرياضة العمالية من خلال منظمة الرياضة الحمراء الدولية. في صيف عام 1934، اقترحت المنظمة الاندماج مع منظمة الرياضة العمالية الاشتراكية الدولية.
في مواجهة النزعة الاستعمارية العنصرية ظهرت العديد من المحاولات المضادة للألعاب الأولمبية، من منطلق مساواتي، لكنها جميعها فشلت بسبب تحوّل الألعاب الأولمبية باكرًا ومنذ تأسيسها إلى جزء من النظام الدولي المهمين.
أمّا المحاولة الأخيرة فقد وُلدت في سياق مناهضة العنصرية الأمريكية على يد عالم الاجتماع، هاري إدواردز، الذي أسس المشروع الأولمبي لحقوق الإنسان، كفكرة مضادة لمنطق الألعاب الأولمبية العنصري. لكن جميع هذه المحاولات، الجماعية والمؤسسية والفردية، فشلت بسبب تحوّل الألعاب الأولمبية باكرًا ومنذ تأسيسها إلى جزء من النظام الدولي المهمين سواءً كان ذلك قبل الحرب أو بعدها، وكذلك لأنها كانت دائمًا جزءًا من النظام الرأسمالي السائد، بوصفها حدثًا كونيًا، تتفرّع عنه أحداث إقليمية، تدر جميعها أرباحًا طائلةً للشركات.
الحديث عن «الوجه القبيح» للألعاب الأولمبية بوصفه تاريخًا قد مضى لا يبدو وجيهًا. فالعنصرية وكراهية النساء والنزعة الاستعمارية ما زالت حاضرةً في هذا الحدث الرياضي، فقبل أيامٍ من انطلاق ألعاب باريس 2024، ما زالت الدولة الفرنسية المضيفة، تُصرّ على منع النساء المسلمات من ارتداء الحجاب الرياضي أو أي شكل آخر من أشكال غطاء الرأس الديني أثناء التنافس. ويتم فرض مثل هذا الحظر في العديد من الألعاب الرياضية في فرنسا، بما في ذلك كرة القدم وكرة السلة والكرة الطائرة، وفي المسابقات على جميع المستويات، بما في ذلك الشباب والهواة، في انتهاك مضاعف لحريتيْ اللباس والعقيدة. وهو امتداد لسياسات أكثر اتساعًا تمارسها الدولة الفرنسية ضد النساء المسلمات في جميع المجالات.
حبر