الوجه الآخر للمدينة

العرائش نيوز:

يوسف العباس

في مدينة القصر الكبير، حيث تلتقي الأزقة الضيقة بظلال الماضي ورائحة الأسى، كان ياسين يعيش في صراعٍ مستمر مع نفسه. شاب في الثلاثينات، نحيف الجسم، أبيض البشرة، وعيناه تحكيان قصة ألم عميق لا ينتهي. إدمانه على الهيروين، أو كما يسميه المدمنون “البابيلة”، أصبح محوره الرئيسي في الحياة، وكان أمله الوحيد الهروب من الألم الذي يعاني منه.

كان ياسين يتوارى في الأماكن المهجورة، بين المنازل المخربة والأزقة المنعزلة، التي يسمونها “الخربة”. تلك الأماكن المغلقة أصبحت ملاذه، حيث يختبئ من العالم، أو ربما يحاول أن يجد فيها نوعًا من السلام، حتى وإن كان زائفًا. كانت حياته تسير في دوامة لا تنتهي: جرعة جديدة، ألم جديد، لكن لا مخرج.

ومع مرور الوقت، كان الألم يتصاعد. لم يكن الألم الوحيد هو الألم الجسدي الناتج عن الإدمان، بل كان يعاني من ألم آخر أشد: ألم الفقر الذي يلتهم كل أحلامه، وألم التهميش الذي يشعر به في كل لحظة، وألم الوصم والتمييز الذي يلاحقه أينما حل. كان ياسين يعاني من مجتمع لا يعترف به، مجتمع ينظر إليه كحالة “جانكي موسخ”، متجاهلًا إنسانيته وحقوقه. كان يعتقد أنه فقد كل شيء، إلا أنه في أعماق قلبه، كان يرفض هذا المصير.

وبينما كان جسده يتدهور بسبب الإدمان والسل، كان ياسين يعيش في غياهب الألم الجسدي والنفسي. كان يعلم في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى العلاج، ولكن هذا الحق كان بعيدًا عنه، كما لو أن الأبواب قد أغلقت في وجهه. كان ياسين يُحرم من أبسط حقوقه كإنسان: الحق في العلاج.

لكن في النهاية، وفي صمت المدينة والسياسة الصحية التي لم تكن قادرة على أن تمنحه فرصة أخرى، مات ياسين. كما مات ألف الشباب قبله، بعد أن عانى من فقر مزمن، إدمان لا يُغادر، وأمراض تُنهش في جسده الضعيف، بينما كان المجتمع يرفض أن يرى فيه سوى حالة “جانكي موسخ”. كان موته بمثابة صرخة مسكوت عنها، صرخة تدعو إلى الاعتراف بحق هذه الفئة في العلاج، في الحياة، وفي كرامة الإنسان، والحق في الإدماج الاجتماعي والمهني.

يجب أن ندرك، كمواطنين ودولة وحكومة وجماعات محلية، أن الإدمان على المخدرات يمكن أن يحدث لأي شخص منا، لعدة أسباب ذاتية وموضوعية. هو مرض مزمن حسب منظمة الصحة العالمية، وهو واقع يجب أن نواجهه بوعي وبمقاربة حقوقية، لأن الحق في العلاج حق دستوري نص عليه أيضًا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. يجب أن يكون الحق في العلاج حقًا متاحًا لجميع المواطنين، بمن فيهم أولئك الذين يعانون من الأمراض المزمنة مثل الإدمان على المخدرات “الصلبة”. إن ياسين كان ضحية مركبة، ضحية الفقر، والتهميش، والوصم الاجتماعي، ضحية دولة ونخبة فاشلة وعبيطة ورعناء لم تستطع توفير مركز لعلاج الإدمان في مدينة أو إقليم بأكمله. كان من الممكن أن ينقذ مركز لعلاج الإدمان ألفًا من الشباب، لكن سياسة الدولة الصحية كانت غير عادلة من الناحية التوزيعية، فهناك مدن تحتوي على ثلاثة مراكز، بينما إقليم العرائش لا يوجد فيه أي مركز.

إذا كانت سياسة الدولة الصحية قد قدمت له الفرصة للحصول على العلاج الذي يستحقه، كأي إنسان ومواطن له حقوق في هذا الوطن الجريح.كان من الممكن سيستمر في الحياة رغم قساوتها.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.