العرائش نيوز:
تشهد إسبانيا مفارقة واضحة في مشهدها الديموغرافي والهجروي، حيث تتقاطع مسارات مهاجرين من خلفيات وغايات مختلفة. فمن جهة، يتزايد عدد المتقاعدين البريطانيين الذين يختارون السواحل الإسبانية ملاذًا لما بعد التقاعد، باحثين عن الراحة والطقس المعتدل، ومن جهة أخرى، يتدفق آلاف الشباب المغاربة في أوج أعمارهم المهنية، حاملين معهم طموحات العمل والاستقرار والمساهمة الفعلية في الاقتصاد المحلي.
الهجرة المغربية نحو إسبانيا ليست حديثة العهد، فقد بدأت بشكل منظم منذ أواخر القرن الماضي، لتصبح الجالية المغربية اليوم الأكبر عددًا بين الجاليات الأجنبية المقيمة في البلاد. ووفقًا لأحدث معطيات المعهد الوطني الإسباني للإحصاء، تجاوز عدد المغاربة المقيمين بإسبانيا 900 ألف شخص، يتوزعون بشكل رئيسي على كاتالونيا، الأندلس، مدريد، وفالنسيا. وتمتاز هذه الجالية بتركيبة عمرية شابة، إذ ينتمي معظم أفرادها إلى الفئة العمرية النشيطة، ما يجعلهم قوة إنتاجية حيوية في السوق الإسباني.
يتولى العمال المغاربة جني المحاصيل الموسمية في الحقول الإسبانية، لا سيما في مناطق مثل ألميريا وهويلفا، حيث يعتمد الفلاحون بشكل شبه كلي على اليد العاملة المغربية. أما في المدن الكبرى، فتجدهم في الأسواق، والمطاعم، والمصانع، وشركات التوزيع، يؤدون أدوارًا أساسية في الحفاظ على استمرار الدورة الاقتصادية.
ورغم أهمية دورهم الحيوي، فإن هؤلاء العمال غالبًا ما يعيشون في ظروف عمل صعبة، مع أجور منخفضة، وساعات طويلة، وغياب شبه تام لفرص الترقية أو الاستقرار القانوني. كما يواجه العديد منهم صعوبات كبيرة في تسوية وضعيتهم القانونية، ويُعانون من صور نمطية سلبية، وإقصاء إعلامي ومؤسساتي. ومع ذلك، فإن الجيل الثاني – أي أبناء المغاربة المولودين في إسبانيا – بدأ يشق طريقه نحو التعليم العالي والمجال المهني، في مؤشر على تحول إيجابي تدريجي، يفتح آفاقًا جديدة نحو اندماج أعمق وأكثر فعالية.
في المقابل، يعيش المتقاعدون البريطانيون في إسبانيا حياة مريحة إلى حد كبير، مستفيدين من معاشاتهم، ومستقرين في تجمعات سكنية مخصصة لهم، غالبًا دون الحاجة لتعلم اللغة أو الاندماج في المحيط المحلي. ولا يشاركون في سوق الشغل، ولا يرتبط وجودهم بمساهمة إنتاجية مباشرة، وإنما باستهلاك خدمات السياحة والعقار.
هذا التباين بين نوعي الهجرة يطرح تساؤلات مشروعة حول معايير “القبول” و”القيمة” في نظر المجتمع والمؤسسات. لماذا يُنظر إلى العامل المغربي كعبء محتمل، في حين يُحتفى بالمتقاعد البريطاني كمستثمر؟ هل تُقاس قيمة المهاجر بما يستهلكه، أم بما يُنتجه ويقدمه للبلد المضيف؟
في النهاية، يُعتبر الاعتراف بمكانة المهاجر المغربي في النسيج الاقتصادي والاجتماعي الإسباني أمرًا يتجاوز كونه مطلبًا إنسانيًا، ليصبح ضرورة واقعية. فهؤلاء الذين قدموا من الضفة الجنوبية لا يسعون إلى الراحة، بل يحملون معهم عزيمةً للعمل وطموحًا لبناء المستقبل، في بلد يحتاج إليهم أكثر مما يُعتقد. بينما قد يستمتع بعض المهاجرين بجمال غروب الشمس على شواطئ كوستا ديل سول، هناك آخرون يعملون تحتها لساعات طويلة، مُساهمين بذلك في استمرار حركة الاقتصاد الإسباني.