جيل زد… مرآة أزمة النخب المغربية وانهيار التنظيمات الكلاسيكية

العرائش نيوز:

بلال الهنا: باحث في الشأن التربوي و الثقافي
لماذا جيل زد …؟
جيل زد جواب طبيعي ضد خيبات غير طبيعية. فالمؤسسات التي كان من المفترض أن تواكب مهامها العضوية و تحافظ على الغاية من وجودها كحصن يحمي المغاربة من التقلبات التاريخية الكبرى-أقصد هنا التنظيمات المؤسسية سياسيا، نقابيا و حقوقيا،- صارت هي نفسها لعوامل موضوعية و أخرى ذاتية معيقا يكبح فعل الانعتاق، و يحجب في طريقه الرؤية النظيفة للعشب الفتي مقابل الظفر بتموقعات تافهة على هامش التاريخ. و لسوء حظ هذه الكيانات فهي من جهة، تتزامن الآن مع وجود جيل لم يستبطن مناخ الإهانات و الإذلالات التاريخية التي عاشت تحت إكراهاتها الأجيال السابقة. و من جهة ثانية، فهو جيل لم يتشرّب و لم يعد يخضع أمام قداسة الخطوط و الألوان و النظريات السكولائية الباهتة التي أنتجها البوليس الفكري حول مشروعية السلطة و رمزياتها المقدسة في مغرب ما بعد الاستقلال.
إذن، جيل زد بما يمتلكه من إبداع على هذا المستوى التنظيمي المفتوح و غير الهرمي أعاد سؤال الجدوى من التنظيمات المؤسسية الكلاسيكية و مدى فاعليتها و جديتها و استيعابها للتحولات العالمية المتسارعة التي لا تتوقف عن إعادة تشكيل اللعبة الإقليمية و الدولية.

كيف نلامس دور النخبة المغربية على مستوياتها في حراك جيل زد؟

سأعود هنا إلى المهمة الجوهرية التي أناطها دولوز بالمفكر مثلا، باعتبارها مهمة جيو-فلسفية. إذن في نظري هي مهمة تراعي جغرافيا الإنسان و الأرض و السياسة. و الإخلال بأحد مبادئها لا يعد إبداعا بقدر ما يعد غباء يمنع رؤية التدفق الحقيقي لمسارات التاريخ و احتمالاتها اللامتناهية.
و في المغرب، ماعدا العقدين الأوليين مابعد الاستقلال حيث حظي فيهما المغرب بمحاولات فكرية تثويرية جادة كانت أكثر التزاما بالهم التاريخي الكبير للأمة المغربية، قد برز نوع آخر من النخبة التي تخلت عن حلمها بمشروع النهضة المغربية و انخرطت بشكل دراماتيكي نشاز في تلميع بشاعة اللفياثان ضدا في رغبة المجتمع و طموحاته في التغيير منذ عقود. و ساهمت بذلك في تقديم المعرفة قربانا على مذبح السلطة، الأمر الذي مكن المخزن من امتلاك شرعية “نخبوية” كغطاء يساعد على الفتك بمشاتل المعرفة التثويرية من جامعات و مراكز بحثية و دور شباب و شبيبات حزبية و نقابية غيره.
أما اليوم، لم تعد الأزمة تقتصر على غياب نخبة ملتزمة و منحازة لقضايا مجتمعها في الجانب الشعبي فقط، بل حتى إن السلطة ذاتها اليوم تجد نفسها عاجزة عن إيجاد نخبة تقوم مقامها في الدفاع الذكي عن مصالحها الطبقية بالشكل الذي يراعي تقلبات المنطقة و محاذيرها و مخاوفها. جوقة من المعتوهين لا يصدقون أنفسهم فكيف يصدقهم جيل زد هذا الذي لم يضع لحدوده شرطا غير العدالة المجتمعية و الكرامة الإنسانية. لأنه جيل الأكثر تطلعا و الأدق معرفة بتفاصيل ما يحدث و مايزال من متغيرات على مستوى العالم بفضل إلمامه بتقنيات الشبكات المفتوحة و كذا الجرأة على طرح الأسئلة السياسية الجوهرية.

ماطبيعة النخبة المثقفة في مغرب جيل زد؟

في الواقع، من المؤسف أنه لدينا نوع من النخبة تربّت تحت ظل محاذير ابستيمية تاريخية/”تاريخانية” يجعل من إنتاجها الفكري عصوات بوليسية تكبح حرية التعبير و التفكير بدافع الاستثناء و الاستقرار و هلم جرا.. و الحقيقة أن ما تدافع عنه هو نوع خاص من الاستقرار. إنه استقرار متوهم ينحصر في ذهن النخبة و لا يمت بصلة للواقع. فبدفاعها عن هكذا أطروحة فهي تدافع عن مصالحها/أوهامها أو… مخاوفها من فقدان تلك التموقعات الاسترزاقية التافهة داخل النسق الاستغلالي المنتج للإهانات و الأوساخ الكبيرة في حق الدولة و المجتمع معا.
إن مثقفا و هو ينطلق من نظم معرفية ثابتة باعتبارها مقدسات و يقينيات ليطلق تصوراته حول العالم/الواقع المتغير، فكأنما يبصق في وجه السيرورة/التحولات التاريخية التي لا ثابت سواها حقيقة. بيولوجيا، الاستقرار هو رديف للموت. و الكيانات/الكائنات المغلقة حسب التعبير “الموراني” مرشحة تلقائيا للانقراض عكس الكائنات العضوية الحيوية، فإن تركيبتها الأفقية،المنفتحة و المتنوعة تحمي امتدادها التاريخي في المستقبل و تعزز ميكانيزماتها الدفاعية بشكل فعال ضد كل التقلبات الفجائية للتاريخ. و إذا لم نكن جزءا من التحولات و نلج غمارها بقوة دفع أنثروبو-سياسية قوية و منيعة، فالأكيد سنكون عرضة للانسحاق الحضاري تحت مخالبها التي لا ترحم.
إن نخبة تكثر الحديث عن الاستقرار و تجلياته الوهمية حد الهوس، بل و تطلق تهديدات في وجه كل من يعري هشاشته أو يشكك في جدواه و لاتاريخيته هي بذلك تقدم خدمة معكوسة و مؤلمة ضد من يوظفونها تحديدا. لأن ما تخشاه و تهرب منه اليوم هو ما سيبتلعك في النهاية -حسب التحذير “اليونغي” -، ما لم تواجه أعطابك النفسية و ثقوبك الحضارية قبل أن تفكر في مواجهته فعليا.
يُجابه جيل زد اليوم بهذا النوع من التهديدات/ الأجوبة المتبلدة حسيّا و معرفيا من قبل بوليس فكري ظن أنه يتملك صافرة التاريخ من بدايته إلى نهايته.
دعني أذكرك أيها النبيه لو أن شهيد الكرامة البوعزيزي مثلا غفا عن عربته المجرورة ذاك الصباح و لم ينصب “كَـرّوصة” شقائه للبيع على ذلك المفترق الطرقي/التاريخي لما امتدت إلى وجهه تلك اليد البوليسية القذرة التي وجهت في الحقيقة صفعة هوجاء عصفت بأحلام العصابة التونوسية ذاتها كما بكثير من الأنظمة العربية التي أسست وجودها الهش على كل ما يناقض جوهر الدولة العادلة. هذا هو تاريخ الشعوب الذي لا يؤمن مكره. و من البلادة ألا نعتبر مهما بدا لنا أن السجون وحدها كفيلة بأن تمنحنا سيطرة على الغليانات و الاحتقانات المجهرية الناقمة و التي لا تتوقف هذه الأساليب السلطوية/الطبقية ذاتها عن توسيع مشاتل إنتاجها.

مستقبل حراك جيل زد؟

جيل زد أو غيره من الإنذارات التاريخية السابقة، يوحي في كل مرة أنه ما لم يتم تقديم أجوبة جادة تقطع مع أجوبة الدوليبرانات و ديبلوماسية البيصارة و القفطان و كعب الغزال، و بحكم أن التاريخ لا ينسى الجرائم المرتكبة في حقه، أخشى أنه إذا أصرينا على هذا العمى الاستراتيجي فسنطوق مستقبل البلاد بألغام هي أكثر تعقيدا من سابقيها. و حراك جيل زد هذا لم يكن سوى قرصة مستجدة لأذن اللفياتان الأصم الذي تعود ألا يسمع إلا نفسه و يصر على ألا ينظر يساره أو تحته. إنه جيل ذكي جدا و مسلح بتقنيات و ميكانيزمات نفسية و سياسية تستجيب للشروط التي يضعها التاريخ للرقي. غير أنه إذا لم يجد من ينصفه فعليا و يستثمر بجدية في طموحاته و أحلامه بوطن عادل و كريم، أو من يغترّ بهدوئه و يطمئن إلى التحليلات الساذجة العمياء، فقد يتحول في لحظة تاريخية غير متوقعة إلى لغم انفجاري سيصعب فك شيفراته. و الأكيد أنه سيدخل بنا التاريخ، لكنني لست متيقنا من أي باب..!!


شاهد أيضا
تعليقات
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.