العرائش نيوز:
أزمة النظام السياسي في الوطن العربي… المغرب مثالا
د. خديجة صبار
لا يمكن الحديث عن الاحتجاجات التي يعيشها الريف، وتلك المتضامنة معه عبر تراب المملكة وخارجها دون استحضار المفكر عبد الله العروي الذي يستنطق التاريخ ويمارس عملية التنقيب في تحليلاته، بحثا عن “معنى ما يحدث” وهذا دور المؤرخ الذي ينتظر منه أن ينظر في معنى الحدث من الجذور و لا يكتفي بالأعراض، لإعطائه معنى، ولاستئصال الداء كما يقول:” تلاحقنا المآسي والأزمات، نتخطاها، نتجنبها ولا نواجهها أبدا بهدف حلها نهائيا، من هنا ذاكرتنا المكلومة، وميلنا إلى النسيان” ( الخواطر ص 68)، وحراك الريف بإشكالاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يعكس الصورة بوضوح: ظروف الضغط الاجتماعية الاقتصادية نفسها، وفشل النخب بمختلف أنواعها بالأخص النخب الحزبية، وقد أضحى نسيجها بدوره جزءا من الفساد، يقاوم الدولة بنفس آليات الدولة وبنفس منطقها، وتقلص دورها وعمقها الجماهيري، وظاهرة التكيف والعودة إلى الذات أي نحو الماضي،(زيارة مستشار الملك لعبد الإله بنكران).
الاحتجاج يطرح إشكالية الدولة التي أفرد لها مؤلف ” مفهوم الدولة” منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ويبدو أن التحرر الوطني الذي أنجز على صعيد الشكل السياسي لا زال يدعو الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لتكوين حقله التحرري أيضا، فولادة الفرد الحر المستقل شرط تاريخي لولادة مجتمع حر، ومواطن يتمتع بحقوقه مقابل القيام بواجباته. مطالب ساكنة الريف مشروعة و ينص عليها الفصل 31 و 33 من دستور 2011:( تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من الحق في العلاج والعناية الصحية، الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة…الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل أو في التشغيل الذاتي، مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للبلد…)
هل فشلت الدولة الوطنية في أدائها داخل الواقع العربي؟ وهي التي كانت المطلب المشروع لحركات التحرير والنضال الوطني من الاستعمار؟ جيل تلك الفترة كان يطالب بدولة وطنية بديلا للحكم الاستعماري الأجنبي، وقدم من أجل هذا المطلب شهداء بالآلاف في الدول العربية عامة، وفي المغرب العربي على وجه الخصوص، لاسيما الجزائر بلد المليون شهيد.
كان المطلب الأول للشعوب المستعمرة أن تحكم من طرف أبنائها بدل المستعمر. والغريب في الأمر أن الأجيال التي صنعت الاستقلال وقاومت من أجله، استبعدت وهمشت وقضى عليها الفقر والحرمان؛ يذكر رجل المخابرات المغربية “أحمد البخاري” أن جهاز المخابرات صفى بعد الاستقلال مباشرة ما يناهز ثمانمائة شخص من أهم المجاهدين الذين ساهموا في استقلال المغرب، بمختلف الطرق، بما في ذلك طريق رفاق مسيرة حمل السلاح !!
لعقد من الزمن، لا أحد ينكر أن هذه الدولة تمتعت بالمشروعية التاريخية، لكن ما أن استوى الحاكم على الكرسي وألفه حتى ظهر نوع من الاستفراد بالسلطة، لينتقل جهاز الحكم إلى شبكة من العلاقات المصلحية الضيقة ذات بعد القرابة والزبونية، عوض الاستجابة لتطلعات المجتمع وما أكثرها. يكشف العروي عن جذور هذه الظاهرة وهو طالب في باريس:” كان جل الطلبة في دار المغرب المسجلين في الآداب والحقوق بخاصة لا يتقيدون بحضور الدرس: يستيقظون متأخرين بعد قضاء أمسياتهم في لعب “الكارتة”، ينزلون لتناول الإفطار في ملابس النوم أو الرياضة، ويطيلون الجلوس إلى أواسط الصبيحة، ثم يقرر كثير منهم عدم مغادرة الحي الجامعي. يتفقون على من يذهب يتقضى عند البقال ومن يقوم بتحضير الغذاء ثم يوصلون نهارهم بليلهم في المحادثة ولعب “الكارتة”. هذه الجماعة الانتهازية المعروفة بخمولها وحدة لسانها وعجزها عن الانسجام مع الجو الثقافي الفرنسي، التي جعلت من دار المغرب دارا مغربية هي التي ستتهافت على المناصب وتملأ دواوين الوزراء في السنين الأولى من الاستقلال، رغم أنها ليست الأجدر بها” (أوراق ص 75).
منذ أحداث “الربيع العربي” وأغلب المجتمعات العربية تعيش في ظروف احتجاج اجتماعي وثقافي وديني، حالة من الاحتقان السياسي تجاه الفئات المتحكمة، الشيء الذي يؤكد أن هناك أزمة حكم سواء كان النظام ملكيا أو جمهوريا، أزمة أعقد من أن تحل بإزاحة نظام هنا أو هناك. ومرور أكثر من ستة عقود من استقلال الدول العربية، يسمح بتقييم التجربة، ومدى تطور الدولة نفسها نحو البناء الديمقراطي وإدخال مجتمعاتها إلى العصر؛ بتطوير المجتمع، تحقيق الرفاهية، توزيع الثروة، توسيع دائرة المشاركة الشعبية في القرار السياسي، علما أن ضعفها وتأخرها هو الذي دفع منذ أواخر القرن التاسع عشر لاحتلالها قصد تحديث هياكلها، ليبقي سؤال ما السبيل لتشييد مجتمع منفتح على العالم، متفاعل مع حقائق العصر قادر على الانخراط في الحداثة عبر استنبات بذور التحديث ومناهج التفكير العقلاني مطروحا، وهو السؤال المؤرق والملغز؟
في المغرب ارتكزت الدولة الوطنية الحديثة على الأسس الموروثة عن فترة الحماية. لم يتم تحويل جهاز الدولة الموروث إلى جهاز وطني ديمقراطي، بإعادة بناء الهياكل الاقتصادية بناء جديدا ذا مرمى وطني، علما أن الاستقلال:” ليس غاية بل وسيلة لوضع أسس الدولة المغربية الحديثة،”(الحسن الثاني، التحدي ص 66). لم ترق الحركة الوطنية لمستوى تكوين نظرية عن الدولة الحديثة، لطبيعة تفكيرها وطغيان العمل السياسي المباشر على اهتماماتها، ومحدودية جهدها الفكري الذي ما بلغ مستوى استلهام أفق التحرر المبني على منطلقات ثابتة، ولتركيزها على السياسي، وإغفال الثقافي رغم أهميته في عملية االتنمية كما أقر بذلك علال الفاسي. ولم تجد المسألة الثقافية في بناء السياسات الوطنية صداها في الوعي العربي المعاصر، لطغيان” الوعي التقنوي”- كما سماه العروي- الذي لا يطمئن لعلم النفس ولعلم الاجتماع، لأنهما يؤكدان على ما يفارق ويفاضل بين الأفراد والمجتمعات، كما لا يقر بحرية الاختيار، فيميل إلى الصرامة ويحمل بذلك بذور حل عسكري لمشكلات المجتمع. تجددت كل الظروف الخارجية ما عدا الوجدان لم يتبدل.
يعود السبب الواقعي لهذا الوفاء أن الوطنيين لم يقتربوا أبدا من آليات الدولة المنتظمة ولم يتعرفوا عليها، كانوا منغمسين في المجتمع، يعايشون أزماته ويعاينون انحطاطه، لم يتمثلوا واقع الدولة، مع أنهم كانوا يعرفون بدقة واقع المجتمع. لذا لجأوا إلى الحل التقليدي وتصوروا الدولة كما يجب أن تكون لتلبي مطالب ضحايا البؤس والحرمان وهذه هي النقطة المهمة:” نفهم لماذا لم يبدع الوطنيون نظرية دولة، لكن هذا لا يغير شيئا من النتيجة وهي أن الدولة بقيت سرا محجوبا عنهم. كيف يفهمونها، كيف ينظرونها وهم لا يعاينونها ولا يلمسونها.”( مفهوم الدولة ص 140).
لم تعمل الحركة الوطنية كنقيض للاستعمار وبديل له، ضمن مشروع مجتمعي حداثي مؤطر بأفق فكري ونظري حديث، لذا لم تحل مسألة الدولة الحديثة بشكل يربطها عضويا بإرادة الجماهير عن طريق مؤسسات ديمقراطية. هذا الفراغ الدستوري الذي غاب عنها أجهض عملية التحرير الوطني الحقيقي:” اعتنقت الحركة الوطنية في الأقطار العربية كفكر سياسي، طوبى الفقهاء دون أن تعي أنها طوبى. فأشاحت بوجهها عن كل نظرية موضوعية في مسألة الدولة. فقهاء العهد الوطني متخلفون عن فقهاء عهد السلطنة، والمفكرون الوطنيون متخلفون في مسائل السلطنة عن معاصريهم الفقهاء.
اختار النظام المغربي ربط مسار البلاد بعجلة الاستعمار الجديد على جميع المستويات، أي الفئة المتعاونة معه، فرسخ التبعية وفرض على المعارضة الشعبية ظروفا استثنائية، وشرع للقمع وحكم على كل ممارسة ديمقراطية بالكبح، ليستفرد والطبقة المستفيدة من وجوده، بالهيمنة على المجال الاقتصادي ومحاصرة المجال السياسي رغم التعددية التي كانت تميزه. في هذا االسياق يتساءل: هل المجتمع التقليدي بالتعريف لا يقبل التغيير، وبالتحديد في المغرب؟ الجواب أن الطبقة المسؤولة عن استمرار القيم الثقافية الدينية حين ترى أن وجودها مهدد بالانهيار تسارع لمجابهة الثقافة الجديدة مجابهة منهجية مركزة، فتنشأ وطنية ثقافية، بمعنى أن الطبقة المذكورة لا تدافع عن وطن محدد جغرافيا بقدر ما تدافع عن قاعدة لثقافة معينة(ثقافتنا في ضوء التاريخ ص 157). وسيجد المغرب نفسه بعد الاستقلال تحت إرثين اثنين، إرث العادات والتقاليد العتيقة وإرث الحماية. ويكمن تاريح الحياة السياسية المغربية في التوفيق بين تاريخ المجهودات المبذولة لإخضاع الشخصية المغربية لقواعد المؤسسات العصرية ومقاييسها، والسوق الاقتصادية والأحزاب السياسية- ليس ذلك أقل دلالة- من أجل تكييف هذه المقاييس حسب معطيات الشخصية المغربية.
يقدر العروي بطولات الحركة الوطنية وتضحياتها وما قدمته من شهداء من باب الوطنية، لكنه كممسك بالعمق التاريخي، يقر بنسبيتها ولا إبداعيتها ولا شموليتها، وبفقدانها للرؤية الإستراتيجية المتجاوزة للإحساسات الشخصية، مما جعلها سهلة الاستدراج، يقوم برنامجها على استراتيجية تغييب الثقافي والاجتماعي مع العلم أن الوعي الشعبي في حاجة أن تبلوره الثقافة وترشده:” الاستقلال الحقيقي، لا الصوري، يعني بالدرجة الأولى تحرير الفرد المغربي من القهر، من استبداد الحكام ، ومن الاستغلال الطبقي، أكان من طرف المغاربة أو الفرنسيين، ومعروف أن الأول أقسى وأفظع من الثاني. انتهى الصراع بين الملكية والحركة الوطنية التي كانت ترغب في تحقيق مشاركة أكثر توازنا للسلطة، بهيمنة الأولى على الحقل وفرض تصورها للمؤسسات السياسية والإدارية مركزيا ومحليا، مما يعني أن التحديث المؤسسي والعصرنة الاجتماعية من الرهانات الجوهرية للصراع بين الطرفين. قادت التجربة البرلمانية الأولى المنبثقة عن دستور 1962 إلى مجموعة من الهزات، بدايتها حوادث الدار البيضاء في مارس 1965. وكشفت عن تمرد الواقع الاجتماعي على المظاهر الدستورية وإعلان حالة الاستثناء، وبداية القطيعة بين الحكم والمعارضة المنبثقة عن الحركة الوطنية، ليتم تحالف الملكية والأعيان القرويين وشبكة النخب المحلية لضمان استقرار العالم القروي. وستتم المصالحة والانتقال الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي، واستباق أحداث الربيع العربي بالإصلاح الدستوري(2011)، الذي يفتقر للتطبيق.
وسوف يتضح بعد عقود من الاستقلال عن الإدارة الأجنبية أن تجربة الدولة في العالم العربي باءت بالفشل لعامل الهشاشة في البنى الاجتماعية العربية، وضعف ديناميات الاندماج الاجتماعي والوطني فيها. وأن الملامح الأساسية للدولة الوطنية لم تتحقق كما طمح إلى ذلك الذين ناضلوا من أجلها، بعد فرصة تاريخية كافية كانت المناخات السياسية والثقافية والنفسية التي انتقدها ما تزال واعدة بالتغير والتقدم، رغم ما كان يعتورها من هزائم وانهيارات، قبل أن يغير البترول موازين القوى بين الدول العربية نفسها، تلك التي كانت مؤهلة لكثافتها السكانية ولعلاقاتها القديمة بالغرب، لصالح دول الخليج بتركيبتها القبلية في وقت لم يكن أحد يعتقد بعودة المكبوت:” كانت الثروة البترولية جد متواضعة وبعيدة عن تغيير موازين القوى لصالح دول الخليج، ذات التركيبة القبلية، ما يسمى اليوم “بالأصولية” لم يكن بارزا بعد ولا مؤثرا. الدول العربية التي كانت تلعب الدور الأول كانت هي الأكثر كثافة سكانيا والأكثر دربة سياسيا ولها علاقة قديمة مع الغرب. لا واحد كان يخشى بحق “عودة المكبوت” الاجتماعي أو الثقافي،”[1] بما فيه من نقص وجهل وعشائرية وامتهان للقيم. لم تحقق تنمية اقتصادية مستقلة ولا ضمنت استقلالا حقيقيا للبلاد ولا فتحت أفق تطور اجتماعي واقتصادي وسياسي وفكري، ولا ضمنت حريات الأفراد والجماعات ولا حققت تداول السلطة، ولا وزنا على الساحة الدولية، بل كرست التبعية وعمقت الفقر والتخلف والاستبداد، ونبذت شعارات الليبرالية والمبادئ والأفكار الإنسانية الكونية.
وعندما يتحدث عن المفاهيم فلكي يبين أنها ثمرة لحوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية. ومقارنة بسيطة لأداء دولة ما بعد الاستعمار يظهر أنها قادت إلى الاستثمار في أوضاع الفقر والتهميش وإهدار الكرامة، مست القوى الحية في البلاد، الشباب، خريجي المعاهد والجامعات، إخفاقات نجني ثمارها اليوم بؤسا وغلاء معيشة وضعف الخدمات الأساسية: التعليمية والصحية وضياع قيم وفوارق اجتماعية مهولة، وكلها مؤشرات دالة على تآكل مشروعيتها، وأن العلاقة متوترة بينها وبين المجتمع وكأني بعبد الله العروي قد فطن لهذه الوضعية حينما استنتج منذ زمان أن الدولة الوطنية تلاشت منذ لحظة ميلادها.
أستاذة باحثة ( مختبر المغرب والعالم االخارجي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء)
