العرائش نيوز:
العرائش.. حدّت على الاستعمار بـ البُلغَة السوداء
وصال الشيخ – الجزيرة
عندما زار الأسير العاشق جان جينيه مدينة العرائش المغربية كان يقف متأملا المحيط الأطلسي من مقبرة الجنود الإسبان، فاختار أن يبني منزلا لصديقه محمد القطراني على مقربة منها، وبعد إصابته بسرطان الحنجرة أوصى أن يرتاح بالعرائش ويدفن فيه غريبا عن فرنسا.
ترك في العرائش منزلا ومكتبة، وقبرا دون ملامح ولا علامات. وعلى أهمية طنجة التي زارها وقابل فيها محمد شكري، فإنّه فضّل المدينة الوادعة المطلة على نهر قديم وأسطوري، نهر اللوكوس الذي يصبّ في المحيط الأطلسي “بحر الظلمات”.
يعيش في العرائش نحو 125 ألف نسمة وفق إحصائيات عام 2014، بعد هجرة الكثيرين نحو بريطانيا وبلجيكا أو طنجة في المغرب بحثا عن عمل، بعد أن فقدت المدينة مكانتها الإستراتيجية والاستثمارية، فقد كانت مطمعا للأوروبيين خاصة البرتغال وإسبانيا منذ القرن الخامس عشر الميلادي، حتى عهد الحماية الإسبانية على شمال المغرب في القرن الـعشرين.
كان ميناؤها القديم على نهر اللوكوس طريقا رئيسيا لتجارة الذهب والملح، يربط بين جنوب الصحراء بأوروبا، خاصة إسبانيا التي احتاجت لاقتصاد قوي لدعم مستعمراتها في أميركا اللاتينية، وقامت من أجله معارك طاحنة قتل فيها الآلاف، ولا يزال هذا الميناء الفريد قائما، وتساق إليه المراكب الصدئة والمعطلة للتصليح.
تبدو المدينة بملامح باهتة، ذابلة، لكن جمالا قويا حاضرا فيها. عندما يهبط الزائر بمحطة سيارة الأجرة الرئيسية، لا بدّ أن يمرّ بمسار تغيرت ملامحه وأسماؤه بعد استقلال المغرب.
بداية مع شارع “الحسن الثاني” أو “كاناليخاس مينديس”؛ وهو شارع رئيسي وحيويّ أحدثته إسبانيا عام 1911، وبنوا مساكن على جانبيه وفق النمط الموريسكيّ أو “العربي الجديد” للمهندسين العسكريين الإسبان، الذين أقاموا بالمدينة عام 1914، واحتوى على مقاهٍ وقاعة سينما ومسرح هُدما وحوّلا لبنايات سكنية حديثة، فضلا عن مكتبات بعضها ما زال مفتوحا، مثل مكتبة “الأمل” ومكتبة “كري ماديس” التي حافظت على اسمها بالإسبانية وتميزت بكتبها.
ومع انفتاح العرائش على أوروبا عبر الإسبانيين، أصبح الشارع ملجأ للنخبة الإسبانية المثقفة والعسكرية أيضا، إضافة للمغاربة، لكنّه اليوم يعيش حالة مغايرة بعد أن تحوّل إلى شارع تجاري عادي، يتبضع منه أهل المدينة، لكنّ الحنين لماضيه ظلّ يسكن قلوب وافديه.
في هبوطنا تجاه “ساحة التحرير” أو “ساحة إسبانيا” (اسمها السابق) التي بناها مهندس إسباني (1924-1928)، قابلنا رئيس مؤسسة “القصبة للنهوض بالتراث الثقافي للمدينة العتيقة” محمد شكيب الأنجري. كان رجلا غارقا بالمعلومات، حافظا لتاريخ مدينته ومحافظا عليه، وعندما سألناه عن اسم مهندس الساحة أجاب بأنّ الأرشيف المعماري في عهد الحماية الإسبانية أُتلف حرقا في غابة قريبة في عام 1989حين توجد نتف دراسات تاريخية في متاحف ومكتبات مدرعيد ولشبونة
عتبر الساحة التي تتوسطها نافورة رابطا بين معمارين: الإسلامي الذي ميّز المدينة العتيقة، والمعمار الكلاسيكي الممزوج بالأندلسي الذي طغى على هندسة المدينة الحديثة الإسبانية لخلق نسيج مألوف بين المدينتين، من حيث شكل الأقواس والزخرفات وشكل المعمار.
يقول الأنجري لـلجزيرة نت “تميزت ساحة العرائش عن باقي الساحات التي بناها الإسبان بأنّها عكست معمار المدن الأندلسية القرطبي والغرناطي، إضافة للديكو الإسباني”.
ورغم التغيرات الملحوظة التي شهدتها الساحة، مثل تدمير الحديقة ذات الاثنتي عشرة شجرة نخيل التي استخدمها الناس لمعرفة الوقت عبر الظلّ، وافتتاح مقهى “العلمي” على أحد جوانبها؛ فإنها “خط أحمر بالنسبة للعرائشيين، لا يمكن العبث بها وإلّا ارتفعت الأصوات الوجدانية عندهم”، كما يقول الأنجري.
شيدت إدارة الحماية الإسبانية جزءا من المدينة الحديثة فوق باب العرائش وأسوارها القائمة منذ القرن السابع عشر دون مراعاة لذلك التاريخ.
ولكن من بنى العرائش في ذلك الزمان؟ يجيب الأنجري بأنه “لا توجد مصادر موثوقة تدل على معمّريها الأولين، لكن بعضها يرجح أنها تعود للعهد الإدريسي، وبنيت فوق ثمانية هكتارات، وفي العهد الوطاسي حصّنت المدينة بأسوار وباب ما زال قائما، ويخضع للترميم بطابع أندلسي بعد أن طمع البرتغاليون بالإقامة فيها”.
شهدت العرائش معركة “وادي المخازن” الشهيرة عام 1578 التي قتل فيها ثلاثة ملوك: المتوكل على الله والمعتصم بالله وسيبستيان ملك البرتغال الشابّ؛ ثمّ عاد الإسبان واحتلّوها مدة 82 عاما وحكمها 18 حاكما إسبانيا متعاقبين، وحوّلوها إلى مدينة مسيحية، وارتدى المغاربة “البُلغة” السوداء حدادا. لكن بقوة جيش السلطان مولاي إسماعيل عادت المدينة، وعاد الناس لارتداء “البلغة” ذات اللون الأصفر، ونشأ على ضفاف المدينة لاحقا أسطول بحري وصل إلى ثلاثمئة سفينة، نتيجة “الجهاد البحري” لاستعادة الثغور الساحلية بعد توحيد المغرب في عهد السلطان إسماعيل وبزوغ حركة العلويين.
وبنى السلطان إسماعيل مسجد الأنوار وسوق فريد وحمّام وفرّان، ولا تزال جميع أبوابها مفتوحة حتى يومنا، وسمح ابنه السلطان محمد من بعده لـ12 قنصلية أوروبية بالوجود في العرائش رغبة بالانفتاح والازدهار.
يبدو زمن العرائش لا يشبه زمن مدن أخرى، لقد ظلّت مطمعا عسكريا قبل التاريخ وبعده، فمن مقهى “البوينتي” من برج الفتح يظهر الموقع الأثري ليكسوس الفينيقي قائما على الضفة اليمنى لنهر “اللوكوس”، وقد شهد قتالا بين هرقل الذي ذهب لقطف التفاحات الذهبية من حدائق الـ”هيسبيرديس”، وبين حارسها التنين وفق الأسطورة.
وقبل الهبوط إلى المرفأ القديم، صادفنا محمد الخلفي يفتح محله الصغير يوم العطلة ويحيك الجلابة الصوفية. كان صوت الدرازة باستخدام “المنوال” الخشبي التقليدي يسمع في زقاق العابرين. عمل الخلفي صيادً وبائع عصير برتقال في الصيف، لكنّ الحياكة طابت له حتى ترأس جمعية “الصانع التقليدي في المدينة العتيقة”.
يحارب الخلفي من أجل صناعته، ويبحث عمّن يتكاتف معه في المدينة القديمة، وجد ابنه الصغير وبدأ بتعلميه الحياكة، كما يخطط لمعرض جماعي مستقبلا.
يقول الخلفي “أخذ البحر أهل العرائش”، دلالة على عملهم في الصيد. لم يعد العمل في الطرز مجديا، فهو يتطلب صبرا ووقتا حتى أصبح مهنة منقرضة في العرائش، لكنّ الخلفي -الذي اكتسبها في سنّ الثانية عشرة- وجد فيها استقلاليته والحكمة والفنّ والإبداع، وقد “ارتداها الصوفيون والأولياء”، كما يقول.
في المرفأ القديم الذي يفتح دفة من بابه، كان الصيادون يتمددون فوق شباكهم ويحضرونها من أجل الانطلاق ليلا إلى عرض البحر. يُقال إنّ سمك العرائش لذيذ ويأتيه المشترون من مدن أخرى.
وصلنا إلى المرفأ القديم، كان عدد من العمال يصبغون مراكب قديمة. توقفوا عن عملهم فضولا لرؤيتنا وتفحصنا. قال الأنجري “يعتبر الميناء الوحيد على نهر في المغرب، ويصلح السفن”. كانت مراكب هادرة تستعد للمغادرة، ونحنا غادرنا وصولا إلى أبراج الفتح.
التقطنا صورا للمدينة بلونيها الأبيض والأزرق على غرار أصيلة وشفشاون، ثم تناولنا شايا في مقهى “البوينتي”، وعلى بعد خطوات كانت مقهى باسم “جان جينيه” مفتوحا يقابله رسم للرمز غيفارا.