العرائش نيوز:
الملك والمقاطعــــــــة
سليمان الريسوني
من المؤكد أن الدرس الحسني، الافتتاحي، الذي ألقاه أحمد التوفيق أمام الملك بعنوان: «حقوق النفس في الإسلام وأبعادها الاقتصادية»، لم يكن ليجازف باختيار موضوعه من تلقاء نفسه، فالراجح أن الديوان الملكي -والتوفيق عضو فيه مستشارا غير معلن للملك في الشؤون الدينية- هو الذي حدد هذا الموضوع، للتعبير عن تفاعل الملك مع حملة المقاطعة الشعبية، في غياب مناسبة يلقي فيها خطابا بنفس نقدي، على منوال الخطابات الأخيرة التي تساءل فيها الملك عن الثروة، وعبر عن عدم رضاه عن النموذج التنموي والإدارة والأحزاب…
الدرس الأول الذي علينا استخلاصه من الدرس الحسني، هو أن الدولة -أي دولة- هي محافظة بطبيعتها، ولا يمكنها أن تقدم من تلقاء نفسها على إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة، ما لم يظهر لها وجود ضغط شعبي واسع. وقد حدث هذا في 2011، عندما بادر الملك في خطاب 9 مارس إلى الاستجابة لعدد من مطالب حركة 20 فبراير، وفي رمضان الذي صادف شهر غشت من السنة نفسها، ألقى التوفيق درسا افتتاحيا –توفيقيا- بعنوان: «الأبعاد التعاقدية للبيعة في تاريخ المغرب»، جمع فيه بين البيعة والدستور، فقال عن الأولى: «إن فحص مؤسسة الحكم المنبثقة عن البيعة، وهي المخزن، لو درس بعلم لبرز في سياقه التاريخي وإكراهاته، نظاما ذا وجه إنساني في باب المعروف».
وقال عن الثاني: «إن من يهمه النظر المقارن، يستطيع أن يسبر في فصول دستور 2011 أين تلتقي هذه الفصول في الغايات مع المبادئ التي نصت عليها البيعات، فيجدها تكاد تكون متطابقة».
لذلك، على السياسيين والفاعلين الاجتماعيين أن يعرفوا أن إقناع الدولة بالتغيير يمر عبر إقناع الشعب، وأن المغاربة هجروا الأحزاب والنقابات، لكنهم لم يهجروا السياسة.
الدرس الثاني الذي علينا استخلاصه من الدرس الحسني، هو أنه في دولة هشة المؤسسات مثل المغرب، فإن المكتسبات الاجتماعية والديمقراطية التي لا تحصَّن، يمكن التراجع عنها في أي وقت، وأن ما تتراجع عنه الدولة سياسيا، يسهل عليها تبريره دينيا أو أمنيا؛ فدستور 2011 الذي جاء أعلى من مطالب أغلب الأحزاب وأخفض من انتظارات الشارع، سرعان ما بدأ التراجع عن كثير من مقتضياته، وتغييب روحه عن السياسات المتبعة، وذلك بالتزامن مع بداية خفوت صوت حركة 20 فبراير، وعدم انبثاق حزب أو جبهة سياسية عنها، مثلما حدث في إسبانيا، عندما انبثق حزب «بوديموس» عن حركة «الغاضبين» (Indignados)، فأسهم ظهور هذا الحزب، ومعه الوعي الجديد، في خلخلة الحياة السياسية التي طالها الجمود منذ الانتقال الديمقراطي لسنة 1978.
من المؤكد أن درس أحمد التوفيق أمام الملك لا يمكن أن يتجاوز الجانب الأخلاقي، حيث تحدث عن أن الاحتكام إلى الأخلاق، كيفما كان منبعها، ضروري للتساكن السلمي في المجتمع، وحتى عندما سعى إلى تجاوز سقف «الأخلاقي» بالحديث عن الكلفة الاقتصادية على الفرد والمجتمع، فسرعان ما عاد إلى المقاربة التربوية-الأخلاقية، بالقول إنه «يمكن تصور حسابها (أي الكلفة الاقتصادية) على أساس تصور درجة عالية من ضبط سلوك الإسراف على النفس، ودرجة عالية من تجنب التبذير في الاحتياجات، ودرجة عالية من السلامة من الطغيان في العلاقات، وما يؤدي إليه من توترات وعداوات».
خلاصة القول، الدولة لها أكثر من لسان وواجهة للتفاعل والتعامل مع ما يجري أمامها من أحداث، ومن ذلك الخطاب الديني الذي يوجد شبه إجماع على أهمية احتكارها إياه، وبالتالي، فأي فعل سياسي يسعى إلى إقامة نوع من التوازن مع الدولة، يجب أن تكون لديه واجهات متعددة، سياسية واجتماعية وثقافية.. وبالعودة قليلا إلى الوراء، نرى أن الديمقراطيين كانوا أقوياء ومزعجين عندما كانوا موجودين في النقابات والجامعات وفي الأندية المسرحية والسينمائية والأدبية.. وليس في البرلمان والمجالس فقط