… هايد بارك

العرائش نيوز:

بقلم : عبد الصمد الشنتوف

وقفت أمام بوابة مترو بادينغتون ، لمحت عيناي يافطة براقة تعلو واجهة أقدم محطة لشبكة الأنفاق في العالم ، مكتوب عليها بخط أزرق داكن “123 سنة من الخدمات” ، لم أكن أعلم أن خط بادينغتون – فارينغتون يعد أول مترو أنشئ في تاريخ البشرية سنة 1863 .
هبطت سلالم منحدرة تقود إلى قعر النفق حتى وصلت رصيف القطارات ، وجدتني وسط سيل بشري من شرائح اجتماعية مختلفة الأعراق والأديان تنتظر قدوم القطار ، في مدينة عملاقة كلندن يبقى المترو أحسن وسيلة للتنقل ، يصل بين جهات متناهية في البعد ، تبادر إلى ذهني ذهاء الإنجليز الذين كانوا سباقين إلى اختراع وسيلة نقل عام تقهر المسافة وتخترق الزمن .
بمجرد ما انبلج الباب العريض محدثا زعيقا قويا حتى ارتميت بجسدي داخل القطار وقد اشتد الزحام وتلاحمت الأبدان ، ألفيت نفسي واقفا متلاصقا بجسد شابة ممشوقة القوام بأرداف مكتنزة وشعر أسود منساب على كتفيها ، يفوح منها عبير عطر فرنسي ساحر .
شعرت بالضيق جراء التدافع اللعين ، أخذ الجو يختنق بالأنفاس حتى أنه لم يعد في المقصورة متسع إلا لبضع فجوات ، روائح أبدان معرقة تزكم الأنوف ممزوجة بروائح عطور عابقة تنبعث من ثياب الركاب . تململت بجسدي قليلا إلى الوراء بصعوبة فائقة كي أتحاشى التصاقي بجسم الحسناء الواقفة أمامي ، خفت أن تتهمني بالتحرش ، أحست بخصري يلامس أردافها ، فاستدارت خلفها وقد غاصت عيناها في عيني ، تبسمت في استحياء ، وقع في ظني أنها مغربية ، قلت لها بالدارجة المغربية “اسمحلي” ! ، ردت علي في دهشة : العفو ، لا عليك أنت إبن بلدي !
نعم ، أنا إبن البلد ، نحن المغاربة في المهجر نتشمم رائحة بعضنا البعض عن مسافة بعيدة ، أطلقت الجميلة ضحكة خبيثة وهي تزيح خصلات شعرها الأسود عن نصف وجهها .

وقف القطار عند محطة بايسووتر ، لفظنا سويا مع طوفان متلاطم من الركاب ، كانت ساعة الذروة . الطقس صيفي جميل ، هبت أولى نسمات مساء دافئ قبيل الغروب . انعطفنا يمينا وسرنا اتجاه هايد بارك ، أبدت رشيدة رغبة في التعارف وهي تسير بجانبي مرتدية بنطلون جينز ضيق يلفت أنظار المارين .
بادرتها قائلا : لهجتك توحي وكأنك من الدار البيضاء أليس كذلك ؟ ، ردت علي الشابة : لست ببعيدة عن البيضاء ، قلت إذن من المحمدية ، قالت خانك تخمينك مرة أخرى ، أنحدر من مدينة برشيد ، أجبتها مازحا : “سطات يسطي وبرشيد يداوي” !
ردت علي بصوت رخيم يسوده بعض التوتر : أضحكتني رغم أن قلبي لا يتحمل ذلك .
سألتها وما سر ذلك ، مظهرك يوحي وكأن الدنيا ابتسمت لك مبكرا والسعادة تلفك من كل جانب ؟ .

أطرقت رأسها ، واسترسلت تحكي بلهجة حانية :
كنت طالبة أدرس الحقوق بجامعة الدار البيضاء ، وصلت لندن منذ سنة تقريبا ، ساقني القدر إلى حي إدجوار رود حيث حصلت على عمل بمخبزة فرنسية ، تعرفت على عراقي كان يتردد علينا كزبون بشكل منتظم ، ويقيم في لندن كلاجئ سياسي هارب من حكم صدام . مع مرور الأيام أبدى لطفا وإعجابا بي ، فاقترح علي الزواج إلا أنني رفضت مبررة أني مرتبطة بزميل لي في الجامعة المغربية إسمه فؤاد ، أبدى العراقي تفهما لوضعي فاقترح علي مساعدتي للحصول على أوراق الإقامة عبر إبرام زواج أبيض مقابل ألف جنيه . فرحت كثيرا لمقترحه ووافقت على الفور . بعدما أتممنا زواجنا الشكلي رحنا إلى مكتب الهجرة فمنحت فيزا إقامة لمدة سنة على أمل الحصول على إقامة دائمة بعد ذلك . إلا أنني صدمت من تغير سلوك الرجل اتجاهي ، صار يعاملني ببرود وجفاء ، أدخلني في دوامة التماطل والابتزاز علما أني سددت له المبلغ وحكيت له قصة حبي لفؤاد في الدار البيضاء . أخذ يراودني بكلام معسول أحيانا ، وتهديد مفضوح أحيانا أخرى كي أخضع لنزواته . أوضحت له أني لست بنت هوى ، لو كان الأمر كذلك لما شمرت عن ساعدي واشتغلت بالمخبزة لساعات مضنية . صحيح أنني سمعت بفتيات في زهرات أعمارهن أصبحن عرضة لابتزاز واستغلال بشع تحت ضغط الحاجة ، فتحولن إلى طرائد تنشدها ذئاب بشرية ببطون مندلقة ورؤوس مربعة ، لكني لست منهن . لم يعد يساورني أدنى شك أن كسب الرزق الحلال ليس أمرا سهلا في أوروبا .

تنهدت رشيدة بشدة ثم استأنفت حكيها بعد صمت قصير :
لا تتصور يا عبدو ، كم تقززت من رده السخيف حين قال لي : أنشدك في الحلال وأرغب في زواجك على سنة النبي وآل البيت .
كان يقصد ما يسمى عند الشيعة بزواج المتعة ، وهو زواج يبدأ بعبارة “زوجتك نفسي” ويقوم على أجل محدد مقابل مبلغ من المال . حاول إقناعي أكثر من مرة بترهاته تحت مسوغات دينية وتاريخية إلا أنني امتنعت واشتد موقفي صلابة . لقد أخذت العهد على نفسي أن يكون الزواج أبيض من أجل الأوراق لا غير ، هذا ما بحت به لحبيبي فؤاد . كلما ازداد الشيعي إصرارا وإلحاحا في مطلبه كلما ازددت قرفا ونفورا منه . رفضت عرضه الوقح رفضا باتا ، وأنا الآن أرجو من الله أن يجد لي سبيلا كي أتغلب على هذا العربي المعتوه .

واصلنا سيرنا بين جنبات هايد بارك ، كان الممشى يعج بالسياح العرب والخليجيين ، بمجرد ما وصلنا البحيرة الجميلة ، التفتت إلي تسألني بفضول : وأنت كيف وضعك هنا في لندن ؟ معتقدة أني أحسن حالا منها لأنني لم أشك حالي البائس وظرفي القاهر .
بدوت ساهما للحظات ، كنت أنظر إلى سرب من البط والأوز يسبح فوق الماء الراكد ، وصغار السمك تحت سطحه . كل يسبح في مكانه بتناغم وسلام وكأن اتفاقا غير مكتوب قد أبرم بينهما .
أعادت رشيدة طرح السؤال بلهفة شديدة ، فاستطردت في حديث مثير :
وصلت لندن منذ شهر تقريبا ، لم أكن أدري أين سأقيم وفي جيبي قسط زهيد من المال ، أقمت مع عائلة مغربية بشمال لندن ، حصلت على عمل بورشة أحذية فتم طردي بعد أسبوع ، ثم رحت أشتغل مع مغربي في سوق الخصار والفواكه من الرابعة فجرا إلى السابعة مساء حتى كدت أموت من شدة البرد والتعب ، لم أحتمل فغادرت إلى مقهى كازابلانكا أشق طريقي نحو المجهول أبحث عن مأوى جديد . من حسن حظي صديقي خالد آواني في بيت عمه بكامدن تاون ، ومنذ ذاك الحين وأنا أتسكع في الشوارع بحثا عن عمل أسد به حاجياتي . أنا الآن أعاني من الإفلاس وتحت ضغط هائل ، ولك أن تتصوري مهاجرا مفلسا يجول شوارع أوروبا بجيوب فارغة . والأدهى والأمر هو لا بد أن أعود إلى المغرب بعد بضعة أسابيع لإنهاء دراستي بطنجة محملا بهدايا لعائلتي مع مبلغ خمسة آلاف درهم أسدده لوالدي .
تسمرت الحسناء مكانها وهي تصغي إلي بفاه فاغر وعيون محدجة ، وأجابتني في استغراب :
ولكنك تتصرف بهدوء ومزاجك لم يتعكر ؟
رددت عليها بثقة زائدة :
سر النجاح هو ، إذا صار حظك عاثرا في هذه الدنيا ، تمالكي نفسك بعزم وقوة ، ارجعي خطوتين نحو الوراء ، خذي نفسا عميقا وتعاطي مع الحياة بمهل ، ثم ارم بنفسك بين أحضان القدر ودعيه يتصرف .
طنجة : 13 يوليو 2021


شاهد أيضا
تعليقات
تعليق 1
  1. جميلة يقول

    كتابتك رائعة و اسلوبك مشوق و الاحداث و التفاصيل اكثر روعة و تشويقا. بالتوفيق و مزيدا من الكتابة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.