مفهوم العقلانية السياسية في فكر محمد عابد الجابري من خلال كتابه “العصبية والدولة” 2

العرائش نيوز:

ذ. نورالدين السعيدي حيون

” نعم لقد قصرنا تحليلنا على العقل اللغوي والعقل الفقهي والعقل العقدي والعقل المستقيل في تراثنا…
ويبقى العقل السياسي موضوعا آخر”.
محمد عابد الجابري، خاتمة كتاب: بنية العقل العربي، ط11.

دراسة وتحليل مفهومي، العصبية والدولة عند محمد عابد الجابري
لم يكن الجابري صاحب مشروع فكري واحد وإنما صاحب مشاريع عدة من صميم هموم الفكر العربي المعاصر، فضيلتان كبيرتان لازمتا الجابري هما: اجتهاد في توليد الأسئلة وإخلاص لفكرة القومية العربية، إذ كان يرى أنه لتحقيق ذلك، فلابد من إعمال أدوات التحليل المعرفي ومناهجه في دراسة التراث- ومما يدل على القيمة الفكرية للرجل، فقد – صدر خلال أسبوع واحد في بيروت أكثر من كتاب عن المفكر المغربي الكبير الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، وهذا دليل على أهميته الفكرية؛ وما تركه من تراث هو موضع عناية الباحثين العرب في كل مكان.
والواقع أن الجابري أسهم إسهاما عظيما في تجديد الفكر العربي المعاصر وفتح مساحات أمام التفكير في قضايا وإشكاليات عدة بعضها كان بكرا، وبعضها كان مطروقا واحتاج الأمر إلى تطوير النظر فيه، وأبرز هذه الكتب الصادرة حديثا في بيروت عن الجابري كتابه بعنوان “العقلانية والنهضة في مشروع محمد عابد الجابري”، وهو عبارة عن أبحاث ومناقشات دارت في ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وشارك فيها نفر من الأكاديميين المعنيين بالقضايا الفكرية والفلسفية، وهم الدكاترة ( انطوان سيف، حسن حنفي، رضوان السيد، عبدالإله بلقزيز، فيصل دراج، فريد العليبي، كمال عبداللطيف، ووجيه قانصو)، كما شارك في النقاش أكاديميون وباحثون آخرون.
وفي أبحاث ومناقشات الكتاب ما يؤكد عظمة الجابري وما أنجزه لا في ميدان واحد، بل في ميادين مختلفة. ويخرج قارئ هذا الكتاب بانطباع مفاده أن الجابري لم يكن صاحب “مشروع” وحسب، وإنما صاحب مشاريع عدة لا تقتصر على جانب من الجوانب، وإنما تتسع لتشمل مناحي عديدة هي من صميم هموم الفكر العربي في هذه المرحلة، وربما في مراحل لاحقة، فقد فتح مساحات في حقل الإسلاميات ودراسات التراث وتاريخ الفكر، قديمه وحديثه، وهو ينتمي إلى جيل المجددين الكبار في هذا الميدان مثل محمد أركون وحسن حنفي والطيب تيزيني وعلي أومليل، وإن انفرد عنهم جميعًا بفكرة المشروع التي شغلته طويلا، وأخذته إلى تحرير رباعيته في نقد العقل العربي ( تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي والعقل الأخلاقي العربي)، وبتوظيف عُدّة اشتغال منهجية مستقاة من مجال الدراسات الابستيمولوجية، أثارت حول أعماله جدلًا في أوساط الدارسين لكنها أحدثت في الوقت عينه الصدمة المعرفية الإيجابية التي كان يحتاج إليها في هذا الميدان الدراسي حتى يستقبل ضروبا جديدة من المقاربة المنهجية ومن الأسئلة الإشكالية فيه.
لم يكن الجابري يخفي توجّسه من معطيات المستقبل، لا سيما تلك التي تتعلق بمستقبل الدولة العربية وما يتهددها من أخطار يرجع معظمها إلى أزمة الخطاب السياسي في ظل منظومة مؤسساتية تعيد اجترار نفس الأنساق التقليدية، وتغلفها بقوالب مستحدثة لا حداثية.
ناقش الجابري، في هذا الصدد، مفهوم “العصبية”، مستحضرا منظور ابن خلدون، غير أنه كان أكثر تفاؤلا إزاء قدرة الدولة في العالم العربي على التخلص من وهم العصبية الدينية كعنصر وحيد للجمع والوحدة… فالاتحاد لا تحدده العصبية فقط، بل هو ممكن أيضاً في إطار تعاقدي مدني حديث يضمن حريات الأفراد، ويتيح للمختلفين حقهم في الشعور بوجودهم المختلف وسط الجماعة. يمكن كذلك للدولة في العالم العربي أن تقوي من وجودها بشرعية العدالة والقيم الحديثة القائمة على مبادئ الحرية والتعايش وآليات الحوار والتبادل. نستحضر كل هذه الأفكار في أدبيات الجابري، ونحن نرى اليوم جيلاً جديداً من العصبيات الفئوية تنهش أجساد قسم كبير من الدول العربية، وتسعى لإقامة دويلات داخل الدولة الواحدة. لم تغير المنطق كثيرا، فالعصبية لا تزال هي المحرك الأساسي لمشروعات هذه الدّويلات. نرى اليوم كيف تبسط سلطة الميليشيات الطائفية سيطرتها على دول بكاملها في العالم العربي، لقد اعتقلت هذه الميلشيات مفهوم المواطنة، وأنهت عمل المؤسسات، وأعادت عدداً من بلداننا إلى مرحلة “ما قبل الدولة”، يحدثُ كل ذلك نتيجة لاستغلال هذا النوع من “العصبية” البراغماتية في سياقات سياسوية ضيقة تعتاش على الأمراض الطائفية، وتجعل من مسألة الولاء للخارج وأجنداته وجهة نظر تُحترم!
يشير محمد عابد الجابري في كتابه “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” إلى أن: الدين يوظف سياسيا منذ قيام معاوية بن أبي سفيان ضد علي بن أبي طالب، إذ ألقى مجموعة من الخطب في المدينة والكوفة ودمشق، يسوّغ فيها مبررات استلامه للسلطة مكرسا فكرة الجبر. بمعنى أن القضاء والقدر هما اللذان سار على دربه الخلفاء من بعده دون استثناء، مكرسين هذه الفكرة، ساقا الخلافة إلى بني أمية. ومن هنا تعتبر الدين محورا لممارسة السلطة . ومن المعيش ينقل ابن خلدون الحال الذي آلت إليه “الدولة الموحّدية” بعدما تقوّت وسادَت أيام استنادها إلى الدعوة الدينية للمهدي بن تومرت وعبد المؤمن، حتى إنها تجلّدت على من هم أجلد منها وأصلب، لكنها لمّا تخلّت عن دعوتها الدينية هانت وسهُل الهوان عليها. فالسبب الأساسي إذن، لمَهلكة المسلمين وتشتت حُكمهم راجع، حسب ابن خلدون، إلى كونهم لا يُقوّون عصبية الدم بالدعوة الدينية كي يتحول الكل إلى عصبية سياسية.
حسب الأستاذ محمد نبيل ملين: فإن إمامة الصلاة كانت تسمح للخليفة بممارسة صلاحياته وبإعطاء طابع ديني لوظيفته، غير أن السلطان الشريف أوكل هذه الوظيفة فيما بعد إلى كبير علماء حضرته. وقد كان السلطان يقوم على غرار أسلافه بشعائر دينية أخرى كذبح أضحية العيد بنفسه، وهي الطقوس التي لا زالت حاضرة في المغرب إلى يومنا هذا. الرهان لم يكن أساسا على الخطبة – يقصد خطبة الجمعة – بقدر ما كان يتعلق بالسيطرة على المساجد لما لها من ثقل في صناعة المواقف ونشرها .
إن الجابري أراد أن يبلور مشروع قراءة نقدية لفكر ابن خلدون، معللا ذلك بما يكفي من المنطق والوضوح، ومستعرضا مبررات طرحه لسؤاله ومدققا في التأويلات والاستنتاجات التي انتهى إليها. يبتدئ الجابري بحثه بتوضيح قصده باصطلاح الخلدونية الذي لا يعني به: تيارا فكريا محددا نشأ مع ابن خلدون واستمر إلى يومنا هذا، ولا يقصد به: فكر ابن خلدون بمجمله كما احتفظت لنا به مؤلفاته، كما لا يقصد به: مجمل الدراسات الحديثة والمعاصرة التي تناولت فكر ابن خلدون ككل أو كأجزاء “، وإنما يعني بالخلدونية مشروعا، ظلت تحمله مقدمة ابن خلدون، لعدة قرون… دون أن يجد من يواصل التفكير فيه لتطويره واغنائه وتحقيقه. وعلى هذا الأساس فان الجابري يعني بما تبقى من “الخلدونية”: العناصر التي تنتمي إلى الخلدونية… والتي مازالت تحتفظ – بشكل أو آخر- بإمكانية الحياة معنا نحن أبناء الوطن العربي الآن. وقد دلل على هذا الرأي بتحليل دقيق – وهو المتخصص في ابن خلدون – مبينا فيه تداخل الجوانب الذاتية والموضوعية في إشكالية ابن خلدون، ومبرزا التناقض الذي ذهب ضحيته المشروع الخلدوني والعوائق الابستمولوجية التي تكبله والمسكوت عنه فيه . فابن خلدون أراد أن يؤسس علما جديدا (علم العمران)، يضع نفسه خارج المنظومة الأرسطية، وفي ذات الوقت يستقي من نفس المنظومة مفاهيمه المنطقية وأرضيته الابستمولوجية. فالشيء الجديد الذي كان يحمله المشروع الخلدوني “هو طموحه إلى بناء منهج و تصور جديدين للتاريخ ” ولكن هذا الطموح النظري ظل أسير الفكر الأرسطي (بمنطقه و جهازه المفاهيمي) الذي كان يبسط سلطته المعرفية على العالم القديم (منذ بزوغ الفلسفة الأرسطية وحتى فجر النهضة الأوربية).
لقد اجتهد ابن خلدون في إيجاد مبررات لعلم العمران داخل المفاهيم الأرسطية والتصورات المرتبطة بها التي كانت مرجعا لكل منهج أو معرفة تريد أن تلتمس لنفسها مشروعية علمية. لكن الشئ الذي لم يعه هو أن علمه الجديد الذي بشر به في مقدمته كان يتطلب جهازا معرفيا لم يستطع إنشاءه هو ولا احد من معاصريه. وما دام الفكر الحديث قد حقق قطائع متواصلة مع المنظومة الأرسطية فان تطوير الفكر الخلدوني رهين بتحريره من عوائقه وإعادة بنائه على أسس جديدة.
يخلص الجابري إلى أن: ما تبقى من الخلدونية اليوم شيئان متناقضان؛ طموحها وعوائقها الابستمولوجية. وبان الخلدونية: لا يمكن أن نحققها نظريا إلا إذا ألغيناها واقعيا. وبعبارة أوضح: يجب أن نتجاوز بالتحليل والنقد الخلدونية كواقع حضاري ما زال يكبل مجتمعنا، لنحصل على الخلدونية كنظرية مستقبلية تخطط لنهضتنا. ولن يتأتى لنا هذا إلا إذا حررناها من عوائقها المشار إليها سابقا، وجعلناها ترى في حاضرنا نحن ما لم تكن تراه في حاضرها هي. انه البعد الاقتصادي في الصراعات الاجتماعية في الوطن العربي الذي يجب رصده وراء النزاعات الطائفية والتحركات العشائرية، في الماضي والحاضر. بهذا المعنى يمكننا أن نفهم قصد الجابري بعبارته: إن ما تبقى من الخلدونية هو ما يجب أن ننجزه وليس ما أنجزته، باعتبار أن إشكالية ابن خلدون ما زالت معاصرة لنا وقابلة للاندماج في اشكاليتنا التي نعيشها الآن.
من هنا انطلقت فكرة الباحث في دراسته هذه حول معالم نظرية ابن خلدون في العصبية والدولة من منظور إسلامي، متوخياً أولاً وقبل كل شيء تقديم آراء ابن خلدون كما هي، وكما فكر فيها هو، انطلاقاً من نظرة شمولية، ترص على أن تجد للأجزاء مكانها في الكل، حرصها على النظر إليها على ضوء مشاغله الشخصية وتجربته الاجتماعية، وعلى اعتبار أنها امتداد وتطور لمنازع الفكر العربي السياسي والاجتماعي خاصة.
وقد كان حرص الباحث شديداً على دراسة الفكر الخلدوني في إطاره الأصلي: إطار تجربته وظروف عصره، وعلى ضوء الثقافة التي غرف منها على اعتبار الفكر الخلدوني فكر فلسفي يتجاوز عصره وبمقدار ما هو نتاج هذا العصر نفسه، لأن مقدمة ابن خلدون هي، بإجماع الباحثين، تراث إنساني قيم يعكس بقوة وعمق خبايا وتفاصيل أهم وأخطر حقبة من التاريخ العربي الإسلامي وليس هذا وحسب، بل هو يعكس أيضاً، ولربما بنفس الدرجة من القوة والعمق، جانباً مهماً من جوانب واقعنا العربي الراهن، هذا الواقع نتواجد فيه جنباً إلى جنب بنيات القرون الوسطى، والبنيات الجديدة التي خلقها عالم اليوم.
لقد حاول ابن خلدون أن يفلسف التاريخ الإسلامي في عهده، وهي محاولة فريدة حقاً. لقد كون لنفسه تصوراً خاصاً به للتاريخ الإسلامي ومسيرته، وهو تصور مستمد من ظروف تجربته، ووقائع عصره والمعطيات الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات التي عاش فيها ودرس أحوالها، ولذلك بات من الضروري على الباحث لفهم النظريات الخلدونية على حقيقتها، استجلاءها بكامل أبعادها. إن تجربة ابن خلدون السياسية والاجتماعية والعلمية، ونظرياته في هذه الميادين نفسها، جانبان متكاملان يشرح أحدهما الآخر ويتممه: الظاهرة الخلدونية ممارسة اجتماعية ومعاناة نفسية، والنظريات الخلدونية تعبير عن تلك الممارسة وتفجير للطاقات التي جندتها هذه المعاناة.
يقول الجابري بأنه إذا كانت قيمة الظاهرة الخلدونية بالنسبة للبحث، ليست في استعراض وقائعها الخارجية، بل في محاولة فك رموزها، وجلاء غوامضها، فإن قيمة النظرية الخلدونية بالنسبة للمشاغل والاهتمامات الفكرية الراهنة، ليست هي الأخرى فيما يقرره من نتائج أو يصدره من أحكام، بل انها كامنة في حل الإشكالات العديدة التي تطرحها، والقضايا الشائكة التي تثيرها. لقد اتخذ ابن خلدون، كما هو معروف، من “العصبية” وهي محور البحث في هذه الدراسة، المفتاح الوحيد الذي حلّ به جميع المشاكل التي يطرحها سير أحداث التاريخ الإسلامي إلى عهده، وإذا كان المفتاح الذي يفتح جميع الأبواب مفتاحاً مزيفاً، كما يقال، فإن قيمة آراء ابن خلدون ليست في الدور، أو الأدوار، الذي يعزوه للعصبية وفاعليتها، بل انها تكمن في الإشكالات العديدة التي تطرحها نظريته في العصبية والدولة والعلاقة القائمة بينهما، هذه العلاقة التي تحدو، في نظره، شكل العمران وتجسم حركة التاريخ. لماذا تتحول العصبية في لحظة من اللحظات من مجرد رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة “للمواجهة والمطالبة” ومن ثمة تأسيس الملك والدولة؟ لماذا تضعف العصبية و”تنكسر سورتها”، بمجرد بلوغها غايتها من الملك والشروع في جني ثمراته؟ لماذا تفسد العصبية بالترف والنعيم وهي القائمة أصلاً على النسب أو ما في معناه؟ لماذا تسقط الدولة بفساد عصبيتها لتقوم عصبية جديدة بتأسيس دولة جديدة؟ ثم لماذا كانت الحضارة، كما يقول ابن خلدون، “غاية للعمران ونهاية لعمره، ومؤذنة بفساده”؟ وأخيراً لماذا كانت حركة التاريخ الإسلامي كما يصورها ابن خلدون، حركة انتقال من البداوة إلى الحضارة، حركة تسير لا على خط مستقيم، بل على شكل دورة؟ تلك هي الإشكالات الرئيسية التي تطرحها فلسفة ابن خلدون التاريخية والتي حاول الباحث إلقاء الضوء عليها وتحليلها واستجلاء أبعادها في هذه الدراسة.
من هنا تكمن خطورة الأدوات التقليدية التي أهملت الدولة العربية مسار تطويرها، وأهملت معها وظيفة التجديد. إنّ أهم ما يمكننا أن نقف عنده اليوم في أدبيات الجابري هو الحاجة الملحة للنقد، فهو السبيل الوحيد لإعادة بعث الحياة في قلب مجتمعات عربية أنهكها الجمود، والنقد هنا يشبه عملية رياضية منطقية تستند في حيثياتها إلى قاعدة اشتغال نفعيّة تقبل العناصر الإيجابية، حتى وإن كانت وليدة الماضي، وتلفظ في الوقت نفسه كل الشوائب التي حملتها أمواج النّقل، وعلقت بذاكرتنا الجماعية، بل وتحكمت في محرّك الوعي وعطلته عن العمل.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.