العرائش نيوز:
عبد المالك العسري
في القصر الكبير كباقي مدن الوطن ، تتزايد مظاهر احتلال الفضاء العمومي بشكل يلفت الانتباه ويثير التساؤل. فالأرصفة التي من المفترض أن تكون متنفسًا للمارة وملاذًا للمشي الآمن، تحولت إلى مساحات ضيقة أو مغتصبة، تتقاسمها كراسي المقاهي الممتدة بلا حدود، وعربات الباعة الجائلين المنتشرة في كل زاوية. والنتيجة أن المواطن يجد نفسه مجبرًا على التسلل بين السيارات أو النزول إلى الشارع، معرضًا للخطر، فاقدًا لحق بسيط من حقوقه الأساسية: حقه في المدينة.
غير أن المقاربة السطحية التي تختزل الظاهرة في “الفوضى” أو “العشوائية” تخفي خلفها واقعًا اجتماعيًا وإنسانيًا مركبًا. فالباعة الجائلون ليسوا مجرد فوضويين يعبثون بالنظام العام، بل هم في كثير من الأحيان أبناء الهامش، ضحايا البطالة والتهميش، ممن لفظهم السوق النظامي وأغلقت في وجوههم أبواب الشغل الكريم. إنهم آباء يبحثون عن لقمة عيش حلال، شباب يرفضون التسول، وأمهات يحاولن إعالة أسر بكدّ وكرامة. لا أحد يختار أن يفرش بضاعته فوق الرصيف حبًا في الزحام، بل لأن لا بديل له، ولأن المؤسسات الوصية الموكول لها تنظيم المجال غابت أو غُيّبت.
لكن في المقابل، لا يمكن أن تكون الحاجة مبررًا دائمًا للتغاضي عن اختناق الشوارع، أو التعدي على حق الآخرين في التحرك الآمن داخل مدنهم. فكما للباعة الجائلين حق في الكرامة والعمل، فللمواطنين كذلك حق في الرصيف والسير في أمان. وهنا يكمن التحدي الحقيقي: كيف نوازن بين حاجات العيش ومتطلبات النظام؟ كيف نصغي لصوت الفئات الهشة دون أن نصمت عن فوضى تُعمّق الإقصاء وتشوّه جمالية المجال؟
أكثر ما يعمّق هذا الإحساس باللاعدل هو ما أصبح يُلاحظ من تحول النفق الأرضي المخصص لعبور الراجلين إلى فضاء تجاري، ( نفق المرينة )حيث تم الترخيص لفتح دكاكين بداخله في مشهد يكاد يُوصف بـالسوريالي، إذ يُفرّغ النفق من وظيفته الأصلية، ويُحوَّل إلى مساحة تجارية ضيقة، تفتقر إلى شروط السلامة والنظافة والكرامة، بل وتُعرّض المارة للازدحام والخطر بدل حمايتهم.
إنها مفارقة غريبة تُجسد كيف يمكن للقرار الإداري، حين يفتقد للرؤية، أن يصنع العبث، وأن يساهم بنفسه في تكريس احتلال الملك العمومي بدل تنظيمه.فمن يصحح هذا الوضع ؟
الجواب لا يكون بالزجر فقط، ولا بالحملات الموسمية التي لا تمس أصل الداء، بل بإرادة حقيقية لخلق حلول عادلة ودائمة. لا بد من التفكير في أسواق نموذجية تحفظ كرامة الباعة وتجمعهم في فضاءات منظمة تراعي شروط النظافة والأمان. لا بد من مواكبة اجتماعية واقتصادية، تدمج هؤلاء الباعة في منظومة الاقتصاد التضامني، وتفتح أمامهم فرصًا جديدة للتكوين والتشغيل. كما أن المقاهي والمطاعم مدعوة لاحترام القانون، والتوقف عن بسط نفوذها على الأرصفة دون وجه حق، لأن الربح لا يجب أن يكون على حساب حق عمومي.
الفضاء العمومي ليس مجرد جغرافيا، بل هو عنوان للمواطنة. حين تُحترم الأرصفة، حين يُنظَّم الباعة، حين يُشرك السكان في القرار، نستعيد معالم المدينة التي نحلم بها جميعًا: مدينة عادلة، تتسع للجميع، وتحفظ كرامة الإنسان والمكان معًا.