حين ينتصر الشرف على المهزلة… ويفضح الغياب ما تريد البيانات إخفاءه.

العرائش نيوز:

عبد العزيز الخبشي

مجرد رأي:
ليس الغياب دائما حيادا، ولا هو موقف رمادي كما يظن السطحيون الذين لا يرون في المشهد إلا ما يعرض على الشاشات أو ما ينشر في البلاغات المعلبة. فثمة غياب أبلغ من كل حضور، وثمة صمت أقدر على فضح الرداءة من كل خطابات الوعظ التي تصدر عن لجان فقدت منذ زمن طويل قدرتها على إقناع حتى نفسها. وهكذا بدا مشهد الاجتماع المهزلة الذي عقدته لجنة الأخلاقيات داخل الجسم الصحفي: اجتماع حضره من حضر لتأثيث صورة باردة، وغاب عنه من رفض أن يكون شاهد زور على ما صار يُطْبَخ في الغرف المغلقة. ومن بين هؤلاء الذين آثروا الوقوف خارج المسرح، يبرز اسمان كبيران بحجمهما المهني والأخلاقي: حميد ساعدني، الإعلامي المعروف على قناة دوزيم، وعبد الله البقالي، الصحفي المخضرم ومدير تحرير جريدة العالَم التاريخية.
لم يكن غيابهما مجرد صدفة عابرة، ولا كان تقاعسا مهنيا، بل كان موقفا صريحا من نوع المواقف التي لا تحتاج إلى إعلان رسمي لتفهم. يكفي تاريخ الرجلين ومعروف سيرتهما المهنية ليخبرنا بأنهما كانا يعلمان مسبقا طبيعة “المخرجات” التي سيخرجها الاجتماع، ويعلمان أن حضورهما لن يكون سوى تزكية ضمنية لعمل يعرفان تمام المعرفة أنه لا يليق لا باسم الصحافة ولا بشرفها. إنهما، بكل بساطة، رفضا أن يتحولا إلى ديكور يستعمل لتجميل صورة لجنة فقدت بوصلتها الأخلاقية، وتخلت عن وظيفتها النبيلة في الدفاع عن شرف المهنة لتحولها إلى أداة ضبطٍ باهتة تخدم مصالح ضيقة وتصفي حسابات لا علاقة لها بالصحافة أو بالحرية أو بالكرامة.
حميد ساعدني، بسمعته التي يعرفها كل من تابع عمله في القناة الثانية، رجل لم يكن يوما ممن يساومون على أخلاقهم. مدرسته المهنية قائمة على احترام المتلقي واحترام قواعد العمل الصحفي، ولذلك لم يكن ممكنا له أن يجلس في طاولة يعلم أنها وضعت أصلا لإخراج قرار معد سلفا. غيابه كان رسالة أكثر فصاحة من كل التعليقات: رسالة تقول إن الأخلاق لا تناقش في غرف فقدت الحس الأخلاقي، وإن المهنية لا تساير الرداءة. إنه الغياب الذي يضع الأصبع على الجرح دون الحاجة إلى صراخ، ويكشف أن من بقي من الصحافة المغربية ما يزال قادرا على الترفع عن الوحل.
أما عبد الله البقالي، فهو رجل تاريخ في الصحافة، ورجل مبدأ قبل ذلك. أن يغيب البقالي عن اجتماع كهذا، فذلك يعني الكثير. يعني أنه أدرك مبكرا أن الاجتماع ليس سوى مسرحية، وأن دوره الوحيد هو منح الشرعية لقرارات معدّة سلفا. وقد أدرك، بحسه العميق، أن المكان الذي يهدر فيه معنى الأخلاق لا يمكن أن يليق بمن أمضى عمره يدافع عن قيم المهنة في أصعب ظروفها. إن البقالي، برصيده الطويل في “العلم”، يعرف أكثر من غيره أن الصحافة لا تحفظ باللجان، بل تحفظ بالرجال. ولذلك، حين يغيب، فهو لا ينسحب من المواجهة، بل يعلن بأن مكانه الطبيعي هو في صف الصحافة الحقيقية، لا في صف المشاهد المصطنعة التي تحاول أن تمنح نفسها سلطة أخلاقية لم تعد تمتلك شروطها.
غيابهما المشترك يفضح ما حاول الاجتماع إخفاءه: أن الأزمة داخل الجسم الصحفي ليست أزمة “خرق أخلاقيات” كما تحب اللجنة أن تدعي، بل هي أزمة قيادة، أزمة مصداقية، أزمة مؤسسات ترفض أن ترى الحقيقة لأنها تعرف أن رؤيتها قد تدينها قبل أن تدين أي صحفي آخر. ولو كان الاجتماع جاداً في بحث الأخلاق، لحضره رجال أخلاق؛ ولو كان الاجتماع صادقا في هدفه، لما غاب عنه رموز بحجم ساعدني والبقالي.
إن ما جرى يكشف بوضوح أن الجسم الصحفي في المغرب، رغم كل محاولات التدجين، ما يزال يملك مناعته الداخلية. فهناك دائما من يرفض الانخراط في العبث، ومن يرفض أن يصبح مجرد رقم في مسرحية تكتب نهايتها قبل أن يبدأ عرضها. ولولا هذا الوعي المتجذر لدى الصحافيين الشرفاء، لكانت المهزلة اليوم أكبر بكثير.
ليس المهم من حضر الاجتماع، بل المهم من امتلك جرأة الغياب. فالغائبون هنا لم يتواروا، بل انتصروا للأخلاق التي يفترض أن اللجنة تحمل اسمها. وإن كان في المشهد ما يدعو إلى الأمل، فهو أن هذا البلد ما يزال ينجب رجالا يعرفون أن الشرف أغلى من المقاعد، وأن الكرامة أسمى من البلاغات، وأن الصحافة، مهما انحنت أمام العواصف، ستظل تقف بفضل أمثالهم: أولئك الذين يختارون الغياب… حين يكون الغياب هو أعلى درجات الحضور.

شاهد أيضا
تعليقات
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.