العرائش نيوز:
الكادو: اشتريت هدية لوالدي
لم أكن أعلم أنه عيد ميلاده، ليس من عادة والدي أن يحتفل بعيد ميلاده، ولا أن يخبرنا بذلك، لما كنا صغارا نستيقظ صباحا في يوم ما من السنة فنجد الكثير من الحلوى على عكس باقي الأيام، حيث كنا نجد بسكويتا واحدا مع ياغورت أو بسكويت ودرهمين، كانت والدتي تخبرنا أنه كلما كانت الحلوى أكثر إلا وكان ذاك اليوم عيد ميلاد واحد من الأسرة، فكنا نحفظ تواريخ ميلادنا جميعا نحن الإخوة، لكن الوالد والوالدة لم نكن نتجرأ أن نسألهم عن تاريخ ميلادهم، كان في السؤال عيب ما، ورهبة، فكنا نفسر صباحات الحلوى الكثيرة المفاجئة بأنه يوم ميلاد واحد منهما، كان واحد بداية العام الميلادي، والآخر في العاشر من شهر مارس، “إكرام” تقول أن أمي من ولدت بداية العام، بينما والدي من مواليد مارس، وكنت أرى العكس، حيث أن والدي أكبر من والدتي وبالتالي هو من ولد بداية العام، وإن كانا لم يولدا في نفس السنة! هكذا كبرنا في منزلنا، إلى أن توقفت الحلوى والبسكويت والدرهمين، وبدأنا ننسى شيئا فشيئا تواريخ ميلاد بعضنا البعض، وبالكاد كل يحفظ تاريخ ميلاده وشيء من مارس وبداية العام.
قبل مدة قصيرة كنت في سفر، وفكرت أن أحضر هدية لوالديّ وإخوتي، هكذا كعادة المسافرين بأموال مسروقة أو مستعارة! جعلت الهدية في كيس جميل، ربما أجمل من الهدية! وضعته في حقيبة السفر، في الجيب الخلفي حيث أضع الأشياء التي أتعمد أن أنساها، لأتذكرها فجأة، عمدا، اشتريت هدايا أخرى بعناية وتنقيب وضعتها في الجيب الأمامي حتى أسحبها بسهولة، كان ذلك قبل أيام، دون أي نية في جعلها هدية عيد ميلاد أو رأس سنة.
لما عدت إلى البلاد، انشغلت مع الأصدقاء والعائلة والعمل، أحاول جاهدا أن أوزع وقتي بينهم بالتساوي حتى لا أُغضب أحدا، لكنني سرعان ما مللت منهم جميعا وعدت –كعادتي- لبيتي الصفيحي منزوع السقف وانزويت كعنكبوت في الزاوية، لا أخرج إلا لأطل على نفسي من النافذة أو لأتسكع آخر الأرصفة، لم ألتقِ والدي إلا مرتين هذا الأسبوع، واحدة لما عدت، والأخرى في حفل عائلي كان يرقص كعادته وكعادة الجَبَليين إذا نُفخ في الناي أو “الغيطة”، في الحقيقة لم ألتقِه هذه المرة، رأيته فقط ولم يرني، تركته لرقصه ونشوته وتعبّده الجَبلي الرجولي، هكذا، وإلا ما كان ليكون جبليا حوزيا مورسكيا من قدماء الغجر الذين ما إن تنطفئ نارهم حتى يوقدوها بالرقص والتغزل بامرأة مغناج تمر أول المساء بجلباب يخفي وما يخفي ويبرز، والـ آه مما يبرز…
أُرقص، إن الجبليات/الغجريات يحبِبن الرقص في الرجال، كما نحب نحن ما فاض من جلابيبهن إذا نضجن!!..
أعود لـ”عش العنكبوت” في الزاوية كل يوم وأتكئ على وسادة من ضجر. كانت الحقيبة أمامي ولم أفكر في إفراغها من حاجيات السفر باستثناء الجيب الأمامي، الملابس والكتب وعلبة أقلام وبعض البُن والألعاب الصغيرة، كانت ما تزال هناك، سحبتها وانتبهت للهدية في الجيب الخلفي، لم أعرها أي اهتمام
_ لعله يرقص الآن، لن يهتم للأمر كثيرا
سحبتها هي الأخرى ببرود ولا مبالاة، فتحت الكيس الأنيق بعد أن نظرت إليه طويلا وقررت أنني لن أعطيه الهدية داخل هذا الكيس، سحبت القميص من داخله، ما بين الزيتي والبني، خطوط عمودية وأزرار بيضاء جميلة، بدا وكأنه أعجبني، مزقت الغلاف البلاستيكي الشفاف وفككته من لـمّته الجميلة التي حتما لن أجيد إرجاعه مرة أخرى كما كان، وقفت أمام المرآة واضعا إياه مبسوطا على زنديّ
_ أشبهه تماما، لولا فارق العمر على الجبين والخدين ولون الشعر والعينين
لم أرتدِه، تتبعت الطويات حتى أعيده كما كان، وأدخلته غلافه الممزق، نظرت إلى الكيس طويلا قبل أن أدسه بداخله وأقتنع أن الهدية يجب أن تُهدى مع الكيس الجميل.
كان علي أن أكون جريئا أكثر حتى أقدم له هدية، وقفت عند الباب أتفحص بعضي وأتساءل ماذا سأفعل، وكيف، مَن أَملَى عليّ هذه الفكرة الساذجة بأن أهدي والدي قميصا، وماذا سيفعل والدي بقميص شبابي ما بين البني والزيتي بأزرار بيضاء فاتحة وشفافة؟
دلفت المنزل ولم يكن هناك، بقيت جالسا والكيس في يدي، مرتبك وخائف كمن سيُقْدِم على عملية سَطو، زاد الارتباك لما سمعت أختي الصغرى تصعد الدرج وهي تردد نشيد الاحتفال بعيد الميلاد، “سنة حلوة يا جميل، سنة حلوة يا جميل …”، ما إن وصلت حتى ارتمت في حضني وبالكاد تقدر أن تقول شيئا من فرط فرحتها:
_ أبي أكمل الخمسين !! وأعطاني خمسين فرنك
ضحكت وعضضتها على خدها وأنا أحسدها على فرحتها الغامرة بخمسينها وخمسين أبي، كان هو الآخر يصعد الدرج خلفها في خطوات بطيئة، ارتمت في حضنه وهي تحمل “الخمسين” عاليا وتلوح بها ممسكة عليها بقوة، قمت أسلّم عليه وأحاول أن أقول كلمة تدل على الفرحة أو المباركة، أحنيت رأسي ودون أن أقول شيئا مددت له الكيس وحملت عنه أختي الصغرى ونزلت بها مسرعا في الدرج، نادى علي، فأجبته من الأسفل، بعد أن نزلت طابقين:
_ الكادو الكادو…
استمرت أختي الصغرى تضحك طوال الطابقين وحتى الشارع، كانت ضحكتها تنقطع وتتغير كلما ارتفعت وثيرة نزولي في السلم، وضعتها عند الباب والحرج يكاد ينفجر في خدي، أخبرتها أن تصعد وحدها، تساءلتْ لماذا أنزلتها، لم يكن لدي جواب، ضحكَتْ في تهكم وعادت تصعد السلم وتضحك بقوة أكبر
لم ألتق والدي طوال ذاك اليوم ولا اليوم الموالي، اليوم صباحا أحضرت لي أختي الصغرى كيسا قالت أن والدي تركه لي، كان نفس الكيس الذي بداخله القميص، لم تعجبه الهدية؟! أحسست بحرج شديد وانتابني ندم عارم وشعور بالسذاجة، كانت أختي تضحك كما كل مرة، رأيت في ضحكتها سرا ما، ولغزا في الكيس، حملته عنها وفتحته، كان محكم الإغلاق، ربطة أولى وثانية وثالثة، ثم كيس آخر بداخله، ثم بسكويت وشوكولا وياغورت ودرهمين وحلوى كثيرة، لقد كنتُ على حق، إن بداية السنة هو عيد ميلاده وليس العاشر من مارس كما قالت “إكرام”، أفرغت كل الكيس من طفولته وحبه وأُبوته الَجبَلية، وما إن أمسكت الدرهمين حتى فرحت نفس الفرحة التي فرحتها أختي بالخمسين فرنك
هذا المساء، كان هنالك حفل في الحي، لم أدْر ما هي المناسبة، لما سألت أخبروني أن والدي عزم كل أصدقائه القدامى إلى الحي حيث تربوا جميعا، استدعى فرقة من الغياطين والطبالين الجبليين، توسطهم كعادته وصار يرقص ويرقص ويرقص..
عندما مر الجلباب الغجري الفائض المغناج يتفحص والدي الذي قطع شوطا طويلا من الرقص حتى شاخ وجن جنونه. نزع القميص الذي ارتداه خصيصا لحفله الشخصي، وصار يلوّح به عاليا وهو يصرخ:
_ إِيوااااااااا، طك زدك طك زطك…
فايسبوك:عثمان الدردابي

