الدولة والجماعة

العرائش نيوز: 

سليمان الريسوني

جربت الدولة مع جماعة العدل والإحسان كل الوصفات، فلم تنفع في إخضاعها ولا في اقتلاعها ولا في تحجيمها.

جرب الحسن الثاني مع مؤسسها، الشيخ عبد السلام ياسين، مستشفى الأمراض العقلية الذي زج به فيه لمدة تقارب أربع سنوات، بعدما توصل منه بكتاب «الإسلام أو الطوفان»، فيما كان مقربون من الملك قد اقترحوا عليه تصفية الشيخ.

وجربت الدولة مع الجماعة السجون، ثم الإقامة الجبرية، وجربت معها الحصار ثم الحوار، مع مجيء الملك محمد السادس إلى الحكم، لكنه لم يكن حوارا جديا، ولم يدم مليّا، وانتهى بعبارة: «للي دارها بيديه يفكها بسنِّيه» التي قالها فتح لله أرسلان لحسن أوريد الناطق، حينئذ، باسم الملك.

جربت الدولة مع الجماعة العزاء الذي قدمه وزير الأوقاف، أحمد التوفيق، في وفاة السليماني العلوي، رفيق درب عبد السلام ياسين، واللاعزاء الذي قابلت به وفاة الشيخ ياسين. جربت معها المنع من التخييم في الشواطئ، والمنع من السفر إلى الحج، ومنع أطرها من مهامهم الإدارية في عدة قطاعات ووزارات.

جربت الدولة مع الجماعة تشميع البيوت والتشهير بساكنيها، والمس بالأعراض الذي حرمنا من قامة سياسية وتواصلية بحجم الأستاذة نادية ياسين، وخامة صوتية بقوة وأناقة المطرب العالمي رشيد غلام.

جربت الدولة مع الجماعة الاتهام بالإرهاب في الخارج والداخل. جربت معها التقزيم من حجمها، ثم التضخيم من دورها الذي نراه، الآن، والحكومة تحمل جماعة العدل والإحسان المسؤولية عن إضرابات طلبة الطب والصيدلة، مثلما نسب إليها وزير الداخلية، من داخل البرلمان، المسؤولية عن حراكي الريف وجرادة، وتوسيع مسار الاحتجاج بمختلف مناطق المملكة، واختراق واستغلال أي حركة اجتماعية لتأجيج الوضع،
كما قال لفتيت.

فما الذي لم تجربه الدولة مع الجماعة؟ الحوار الجدي وغير المشروط، وهذا دونه خرط القتاد، في وقتنا الراهن، لأن السلطوية تعتقد أنها تعافت من أعراض الربيع العربي، وصممت قالبا بقياس واحد، على غرار «سرير بروكرست»، تضع فيه كل التنظيمات السياسية بكل أحجامها وأنواعها، وآخرها العدالة والتنمية.

(تحكي الميثولوجيا الإغريقية أن بروكرست كان يستدرج ضيوفه للنوم فوق سريره الذي فصله على قياسه، فإذا كان الضيف طويلا يقطع رجليه، وإذا كان قصيرا يمططه إلى أن تنكسر مفاصله ويأتي على قياس وقالب السرير).

لذلك، فإن أي حوار يمكن أن تقدم فيه الدولة والجماعة التنازلات المقبولة والمعقولة والمعمول بها في جو جدي وندي، غير وارد الآن، وبالتالي، فلا داعي لأن نقدم أي تنظير إرادوي في هذا المقال، ولنبق فقط في الخرجات المتكررة للحكومة أو أعضاء فيها لاتهام العدل والإحسان بالتحريض على الاحتجاجات المناطقية والقطاعية، وآخرها إضراب الطلبة الأطباء والصيادلة.

دعنا نصدق رواية الحكومة، ووزير داخليتها قبلها، أن العدل والإحسان هي التي تحرك الاحتجاجات التي تعم البلد وتتحكم فيها عن بعد. فهذا القول، بما فيه من اختزال متعسف لمئات الطلبة الأطباء متنوعي الانتماءات السياسية والفكرية، تعوزه الحصافة والرصانة السياسية التي كانت لرجالات الدولة.

وأجزم، بل أقسم، لو أن وزيرا في عهد الحسن الثاني قال إن الحزب الفلاني له القدرة على تحريك الشارع، لوجد نفسه ممنوعا من دخول وزارته، حتى لو كانت لذلك الحزب، فعلا، هذه القدرة. الدولة، في التعريف والتصريف السياسي لرجالات الدولة، هي الوحيدة القادرة على تحريك الشارع، حتى ولو كانت في مرحلة ضعف.

لقد حكى لي القيادي الاستقلالي، مولاي امحمد الخليفة، أنه عقب المحاولة الانقلابية ليوليوز 1971، وبعدما تُلي بيان الانقلابيين في الإذاعة، واعتقد الناس أن عهد الحسن الثاني قد ولىَّ إلى غير رجعة، اقتلع مُسيرا فندقين شهيرين بمراكش صور الحسن الثاني، وربما قام أحدهما بتهشيمها بقدميه، فجرى تقديمهما للمحاكمة.

ورغم وجود ملف محكم وشهود إثبات للوقائع، فإن المحكمة برأتهما. وفي إحدى المناسبات، سأل الخليفة، الذي كان ينوب عن المتهمين، رئيس المحكمة، القاضي محمد اللعبي، عن السر وراء الحكم، غير المتوقع، على موكليه بالبراءة، فأجابه: «ألم ينفِ المتهمان المنسوب إليهما أمام المحكمة؟ فلماذا نجعل التاريخ يحكي أنه كان هناك، يوما، من أساء إلى الملك؟».

وأضاف: «لا نريد أن يأتي، مستقبلا، باحث ويقول إن المغاربة كانوا ضد الملك، بل نريده أن يقول إن المحاولة الانقلابية كانت فعلا معزولا أقدم عليه حفنة عسكريين لم يتجاوب معها الشعب».

لنقارن تصرف القاضي اللعبي، الذي حكم في كبرى المحاكمات السياسية والعسكرية، بتصرف سياسيينا اليوم؛ عشرات الطالبات الطبيبات يتصدرن المظاهرات، دون حجاب، ويهتفن: «سنة بيضاء أرحم من مستقبل أسود»، لكن الحكومة تصر على تبطيقهن ببطاقة العدل والإحسان.

أمر آخر، يجب أن ننتبه إليه، الجماعة لم تعد، في نظر كثير من منظري الدولة، مجرد بؤرة للفكر الخرافي، بل إنها، اليوم، ملهم وموجه للأطباء والمهندسين وأصحاب التخصصات العلمية الدقيقة.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.