صِدام المستقبل

العرائش نيوز:

احتضنت أكاديمية المملكة المغربية لقاء بتاريخ 18 سبتمبر/أيلول الحالي حول معالم العالم الجديد، بمحاضرة ألقاها الخبير الفرنسي تيري مونتريبال، رئيس المركز الفرنسي للعلاقات الدولية، من أوائل مراكز البحث الفرنسي الرصينة التي طبقت شهرتها الآفاق في فرنسا وخارجها، اختار لها عنوان «صِدام المستقبل».
مونتريبال باحث مشهود له بالمعرفة، وكذلك بكثافة شبكة علاقاته العامة الواسعة، مع أصحاب القرار وأصحاب الرأي. والمعهد الذي يُشرف عليه من الهيئات التي يُستمع لها من لدن أصحاب القرار، لذلك لم تكن محاضرته أمرا عاديا، في مؤسسة مغربية رسمية، أخذت تخرج من الإطار التقليدي للأكاديميات، والثقافة المحافظة التي تطبعها، لتطرح قضايا آنية، مرتبطة بتحديد مفهوم الحداثة، وتستضيف من أجل ذلك ثلة من خيرة مثقفي المغرب والعالم العربي للنقاش بشأنها وتحديد مواصفاتها، وتضع على طاولة التشريح والدرس التوجهات الجديدة للدبلوماسية المغربية، وتجعل الأندلس وما ترمز له أحد مواضيعها، وتفكر في معالم العالم الجديد. خرجت الأكاديمية عن المعتاد، من خلال التفكير في عالم الغد، واستضافت من أجل ذلك باحثا وازنا.
لم يأت مونتريبال لكي يزجي حقائق عامة، ولكن لكي يدق ناقوس الخطر لمعالم عالم ينتظم خارج الغرب، وضرورة الوقوف ضد المخاطر التي قد تلوح جراء هذا التحول المرتقب، أو ما أسماه بصراع المستقبل. لم يعد سرد العالم شأنا غربيا. عنّ فاعل جديد يزاحم الغرب وقد يزيحه من سؤدده، ولا يتحرج مونتريبال من نعته بالخطر، وهو الصين.
يحدد المحاضر زمنا وهو سنة 2049، وهو التاريخ الذي جعلته القيادة الصينية أفقا كي تصبح القوة الاقتصادية العالمية الأولى، والذي يصادف الذكرى المئوية على استلام الحزب الشيوعي السلطة في الصين الشعبية. تاريخ يرمز إلى تحول وتحد للغرب.
ثم يشخص المحاضر حالة الغرب، بداية من أمريكا، التي استأثرت بوضع الأحادية القطبية بعد سقوط حائط برلين. انتقد المحاضر السياسة الأمريكية، التي هي، حسب الخبير الفرنسي، لا تخدم الغرب، ولا أمريكا على المدى الطويل. لا يقف كثيرا عند ظاهرة ترامب، التي لا ترجع إلى الصدفة، ذلك أنه لو لم يكن ترامب لأوجدت الظروف قائدا آخر ينتهج سياسة ترامب. ليس ترامب إلا تعبيرُ الأمريكيين عن القلق حيال المستقبل، وليس بمستعبد، حسب المحاضر، أن يعاد ترشيحه لولاية ثانية.
كبرى أخطاء أمريكا، بل الغرب كانت حيال روسيا، إذ راكمت الولايات المتحدة سلسلة من الأخطاء التي أهانت بها الدب الروسي.. واعتبر المحاضر أن قبول انضمام كل من جورجيا وأوكرانيا في الحلف الأطلسي، أثار حفيظة الدب الروسي ودفع به إلى أحضان الصين. ولا ينصح المحاضر بالتشنج أو الصرامة حيال روسيا، ذلك أن الصين تشكل تهديدا على روسيا كذلك، خاصة على سيبيريا التي لا تضم إلا 30 مليون نسمة، أمام الكثافة الديمغرافية للصين. المسرح الجديد للعمليات الذي تترجم فيه الصين نفوذها أو سؤددها، هو إفريقيا، وهو ما يشكل تهديدا صارخا للغرب وبالأخص لفرنسا، من خلال تقديم قروض، تمارس من خلالها ضغوطا على الدول الإفريقية، كما لو أن المحاضر يُذكّر بسياسة الغرب حيال الشرق، حين تم إغراقه بالديون في القرن التاسع عشر (مصر، الباب العالي، المغرب). والصين هي كذلك الدياسبورا الصينية، أو الجالية الصينية في الغرب، التي تشكل قوة اقتصادية ومالية قوية، منبثة داخل الغرب، ومرتبطة بالصين.
ويختتم بالقول أن ليس هناك قوة يمكن أن تثبت أمام «انجراف» الغرب، سوى أوروبا.
كل هذا معلوم، والطريف في تحليل الباحث، هو تعويله على شمال إفريقيا، قاطبة التي ترمز للأمل في علاقات متميزة مع أوروبا عبر فرنسا. والجديد، وهو الأمر المثير من لدن عناصر يمينية فرنسية خصّت المغرب بالأولوية، وإلى حد ما تونس، ونأت عن الجزائر، أن المحاضر تحدث عن كتلة يمكن أن تكون حلقة مهمة في ترتيب الأوراق الجديدة. ويشير إلى التوجه الجديد الذي ترمز له «ظاهرة ماكرون» التي تحيل إلى الأمل وعلاقات جديدة مع شمال إفريقيا. نعم فرنسا تغيرت وتتغير، تحت تأثير الأحداث. لم تعد ترنو إلى دور في العالم العربي، حيث تزاحمها كل من الولايات المتحدة، في الخليج ومصر والعراق، ومن ثمة تنأى سياسية فرنسا عن المقاربة الأمريكية، حتى في سوريا، حيث لها منافس شرس، وهو روسيا، وتفضل أن تضع ثقلها في بلاد المغرب أو شمال إفريقيا، أولا لاعتبارات تاريخية، وأخرى جيوستراتيجية، لأنها البوابة لإفريقيا، مما تعتبره فرنسا مجالها المحفوظ.
التحليل الذي قدمه الخبير الفرنسي ليس تخرصا، بل يشكل اتجاها عاما في فرنسا، ويتساءل أصحاب الفكر والقرار في الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، هل نقبل بدور كومبارس، في موضوع التنافس، أم ننتقل لكي نصبح فاعلين؟ ولن نكون كذلك مع حالة التشرذم القائمة، والتوتر المستشري، وانعدام الرؤية.
في الأسبوع ذاته كتب علي الإدريسي وهو جامعي من المغرب مقيم بكندا، معبرا عن توجهين متضاربين في البلدان المغاربية، أولا استمرار التنافر على المستوى الرسمي، وثانيا انقشاع التقارب على المستوى الشعبي. فعلى المستوى الرسمي يمكن أن نتوقع حسب الباحث استمرار حالة تشرذم الدول المغاربية، وتعنت سياساتها «الوطنية». أما التقارب فهو يتم من خلال قواسم مشتركة سلبية، وهو استشراء عدم رضا غالبية ساكنة شمال افريقيا على وضعها العام، وقاسم النزوع للهجرة، وقاسم تدهور التعليم العمومي، وقاسم فساد الإدارة، وقاسم فساد الصحة.
الخلاصة التي ننتهي إليها، بالنظر إلى التحولات العالمية الكبرى المذهلة، والوضع الجامد بشمال إفريقيا، إلا أنها لن تكون بمنأى عن «صِدام المستقبل»، وستعرف تحولات عميقة تفرضها الديناميات الداخلية، ويدفع لها السياق الدولي.


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.