من إسراء غريب الفلسطينية إلى هاجر الريسوني المغربية: مخالب الوحش!

العرائش نيوز:

شهد العالم العربي مؤخرا حادثتي قتل فيزيائي ومعنويّ خطيرتين لشابتين، الأولى هي إسراء غريب، من مدينة بيت لحم الفلسطينية، والثانية هي هاجر الريسوني، من مدينة العرائش المغربية. أدّت الواقعتان إلى جدل في وسائل الإعلام والتواصل، ورغم التعاطف والتفاعل الهائلين اللذين حظيت بهما الفتاتان، فلم يخلُ الأمر من محاولات لخلط الأوراق والدفاع غير المباشر، وأحيانا المباشر، عن الجناة.
تم في الحالتين اتهام الضحيتين بقضية شخصيّة تخصّ شابا تقدّم لخطبة إسراء على موقع للتواصل الاجتماعي، والثانية تخص خطيبا معلوما لهاجر. كانت أطراف من العائلة، في الحالة الأولى، هي أداة العقاب والإجرام التي تشاركت فيها ابنة العم التي وشت وحرضت ضد الفتاة، والأخ المقيم في كندا الذي جاء ليشارك في المقتلة، وزوج الشقيقة والأب والإخوة الذكور، ويبدو الذنب مذهلا في طفافته وهشاشته ولا معناه: خروج إسراء مع شخص يريد التقدم لخطبتها، مرفوقة بأختها وبمعرفة أمها، وقد تسارع فعل الوشاية ليصبح جريمة تعنيف رهيبة تكسر العمود الفقري للفتاة، ثم تتحول إلى جريمة مدبرة يكاد يتشارك فيها المجتمع نفسه، بما فيه المشفى الذي كانت فيه، والذي سمح باستمرار التعنيف داخله ثم بالسماح لأهلها باستعادتها ليستكمل المجرمون فعلتهم ويقضوا على الفتاة البريئة.

مسّ من الجنّ

حاول الأهل، عبر تصريحات من زوج الشقيقة، على وسائط التواصل ثم مع الإعلام، بلبلة الرأي العام بالحديث عن «مس من الجن» ورمي الفتاة نفسها من الطابق الثالث في بناية منزل العائلة، ولكن يبدو أن تفاعل الجمهور مع المظلومية الصارخة للفتاة، دفع السلطات للتحرك فألقت القبض على بعض المتهمين، كما فندت وزارة الصحة الادعاءات الركيكة ضد إسراء. في حين «تشاركت» عائلة إسراء على تدبير المقتلة البشعة، حيث لعبت الأنثى دور الواشي، وقام الذكور بالعمل العضلي، وتراجعت مؤسسة عامة منوطة بجزء من حماية الساعين إليها أمام سطوة الاجتماعي، الممثل فيزيائيا بالعائلة/العشيرة، والممثل فكريا بمنظومة لضبط مكان وصورة الأنثى وحركتها في المجتمع، حضر العنصر العائلي في حالة هاجر بطريقة مناقضة، حيث تداعى الجسم العائلي والاجتماعي لحماية هاجر، بعد اتهامها، هي أيضا، بقضية تحاول بدورها وضعها تحت مسؤولية السلطة الاجتماعية/السياسية، بدعوى الإجهاض، وتنزع منها بالتالي، مسؤوليتها عن نفسها وتصرفاتها كإنسان وامرأة، وهو جذر ما حصل مع إسراء، ولكن الأدوات اختلفت، أولا، بسبب الاختلافات الاجتماعية بين المجتمعين الفلسطيني والمغربي، وثانيا بسبب أن المستهدف هنا ليست الفتاة وحدها، ولكن عائلتها البيولوجية، فهي ابنة أخ أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعائلتها الصحافية، فهي تعمل في مؤسسة «أخبار اليوم»، التي استهدفت المنظومة الأمنية المغربية رئيس تحريرها توفيق بوعشرين سابقا بعملية تدمير سمعة مشابهة، أدت به إلى السجن، وكذلك «العائلة السياسية»، التي تمثلها القوى المدنية المناصرة للديمقراطية السياسية والاجتماعية.
هناك ثلاثة عناصر أخرى حاضرة ومهمة في القضيتين: العنصر الأول هو الشاب الذي تبادله الإعجاب، ويريد التقدم لخطوبتها، ويقابله في حالة هاجر طالب دكتوراه متخرج من السودان، والثاني هو العنصر الطبي الممثل بالمشفى في حالة إسراء الذي قام بتسليمها، ووزارة الصحة التي فندت الادعاءات، والذي يقابله عيادة طبيب نسائية تم اعتقاله ومساعدته، ثم هناك مشفى آخر قام بإجراء فحص لهاجر بطلب من «الفرقة الجنائية» لشرطة الرباط وفند بدوره مزاعم الأمن، والثالث هو عنصر وسائط التواصل والفاعلية الاجتماعية، حيث أن إسراء «فنانة ميك آب» ولديها 12 ألف متابع على موقع «أنستغرام»، وهو ما يجعلها شخصا مهما ومؤثرا في وسطها الاجتماعي، وهاجر هي صحافية في مؤسسة عامة معروفة، وهي من عائلة مهمة ومؤثرة أيضا، وكلا الأمرين يجعلان من الفتاتين نموذجا راقيا وقويا للأنثى، وهو أمر قد يدفع التهيب والحسد والرغبة في فرض السيطرة ضمن عقلية عائلية وعشائرية ضيقة، في حالة إسراء، وللمراقبة والتربص وفرض القوة الغاشمة، مهما كلف الأمر لدى أرباب المنظومة الأمنية، في حالة هاجر.

ضحايا الضحايا

مرفوقا بخلل المؤسسات القانونية والمدنية الضعيفة، أمام المفاهيم والممارسات الاجتماعية العنفية يتواجه، في حالة إسراء، الظلم العائلي والاجتماعي مع الرأي العام المصدوم بـ»تفاهة الشر» وقدرته على التوالد، ليس عبر «جرائم الشرف» وحسب، بل على الصعد الاجتماعية والسياسية كافة.
تقدم القضيتان مناسبة للنظر في العلاقة المعقدة بين الاجتماعي والسياسي، فإسراء تعيش في أراض تحتلها دولة عجيبة اسمها إسرائيل، وهو ما يجعلها وعائلتها والمجتمع الذي يحيطها، كائنات سياسية بالضرورة لا بالاختيار، ويعرّضهم لأشكال مركبة من الضغط، وبالنتيجة، إلى أعطاب مهولة تميز عادة البنى الاجتماعية والسياسية للمقهورين، الذين يتجاهلون، فيما هم يطورون نظما للدفاع عن أنفسهم، أن الحرب على نظم القهر الاستيطاني المركب مستحيلة من دون تفكيك نظم القهر الاجتماعية والسياسية لديهم. تظهر حالة هاجر الريسوني قدرة أكبر على سبر غور العلاقة بين الاجتماعي والسياسي. أحد ردود الفعل المهمة جاءت من الأمير هشام العلوي، ابن عم الملك المغربي محمد السادس، الذي ركز على نقطتين، الأولى هي أن الدولة المغربية تتناقض مع شعاراتها حول حرية الفرد والإسلام المتنور، والثانية هي أن «انزلاقات المقاولة الأمنية» – كما سماها – «تعبث بأمن واستقرار البلاد»، ويشير التصريح إلى مسألة مهمة هي «حرية الفرد»، وهي تضم بالتأكيد الاجتماعي كما السياسي، ومفعول انتهاكها على يد «المقاولة الأمنية» ينتهك معنى الدولة نفسها، أو يجعلها في مواجهة عدمية مع منظومتي الاجتماع والسياسة، ويحولها إلى «قوة غاشمة» لا إلى حارس للعقد الاجتماعي السياسي للبلاد.
مفيد أيضا، رد أحد قادة «العدالة والإحسان»، ذي المرجعية الإسلامية، الذي انتبه إلى استخدام سلاح التشهـــير الأخلاقي، من قبل «جهات عديمة الأخلاق وحامية للرذيلة»، وهذه فعلا مفارقة ساخرة وسياسية في عمقها، خصوصا حين نعلم أن المغرب يحتل الصدارة عربيا في عمليات الإجهاض، حيث تتحدث الأرقام عن حوالي 600 إلى 800 حالة إجهاض يوميا، أي قرابة ربع مليون حالة سنويا، وإذا طبّقت حالة هاجر فإن المغرب بحاجة إلى مليون وخمسمئة ألف عنصر أمن مهمتهم اعتقال النساء المجهضات!
إحدى النقاط الإشكالية في قضية هاجر، عبر عنها عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة وأمين عام حزب «العدالة والتنمية» السابق الذي قال إنه «سيحضر زفافها» وأنه تضامن معها «بعد أن اطلع على التقرير الطبي»، وهو موقف قد يبدو متناسبا مع «المرجعية الإسلامية» للمتحدث، ولكنه ضعيف حتى بالمقياس الإسلامي المعروف الذي يرفض التشهير بالمحصنات، ويشترط شروطا تعجيزية على اتهام الزنا، وهو بذلك يتجاهل الممارسة التربصية والتجسسية للمنظومة الأمنية التي خصصت ستة رجال أمن لمراقبة الفتاة وتصويرها واعتقالها في شارع عام، كما يتجاهل قضية «حرية الفرد» (وهي أيضا قضية لها جذور إسلامية كما هو معلوم).
تفيد وقائع متنافرة، مثل «شــكليّة» أن إسراء وهاجر محجبتان، وتساؤل الكاتب الفلسطيني سليم البيك عن غياب المنظمات اليسارية الفلسطينية عن التنديد بما حصل لإسراء غريب، ومقارنتنا ذلك بالتضامن المغربي السياسي والعامّ الذي شارك فيه الإسلاميون بقوة مع هاجر الريسوني، عن تعلّق القضيتين في الحقيقة بقضايا الحرية الفردية والديمقراطية الاجتماعية والسياسية وليس بالسرديّات الأيديولوجية الاعتيادية.

حسام الدين محمد

نشر “بالقدس العربي”


شاهد أيضا
تعليقات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.